قراءة سياسية في كلمة الرئيس السيسي بمناسبة الذكرى الثانية عشرة لثورة 30 يونيو

كلمات القادة لا تُقال عبثًا، خصوصًا حين تصدر في لحظة رمزية كذكرى ثورة 30 يونيو، التي مثّلت نقطة تحوّل مصيرية في تاريخ الدولة المصرية الحديثة. وخطاب الرئيس عبد الفتاح السيسي في هذه المناسبة لم يكن مجرّد استدعاء للماضي أو احتفال بطقوس الذكرى، بل جاء محمّلًا برسائل سياسية واضحة، موجّهة للداخل والخارج، للأنصار والخصوم، وللمواطن الذي يئنّ تحت وطأة الأعباء، كما للمؤسسات التي تُطالَب بالصبر والثبات.
وفي قراءة متأنية لهذه الكلمة، نجد خيوطًا متعددة تتشابك لتكوّن نسيج خطاب الدولة في هذه المرحلة: تثبيت الشرعية، التأكيد على الاستمرارية، مواجهة التحديات، ومحاولة احتواء الغضب الصامت المتنامي في الشارع المصري.
هذه قراءة تحليلية تسبر أغوار المعاني بين السطور، وتستعرض دلالات الخطاب في سياقه الزمني والسياسي، وتضعه ضمن خريطة أوسع لفهم ملامح المرحلة القادمة
أولًا: تأكيد على مكانة 30 يونيو باعتبارها “ثورة شعبية”
كلمة الرئيس السيسي جاءت لتُكرّس السردية الرسمية للدولة المصرية حول 30 يونيو كثورة شعبية بامتياز، وليس مجرد “تحرك ضد الإخوان” كما يصفها خصوم النظام. تم التأكيد على أن ما حدث كان “ملحمة وطنية” استعاد فيها الشعب المصري “هويته وتاريخه ومصيره”، وهي إشارات رمزية تهدف إلى تعزيز الصورة العامة لمكانة هذه اللحظة في الوعي الجمعي للمصريين، وتثبيت مشروع الدولة ما بعد 2013 كامتداد طبيعي لإرادة الجماهير.
ثانيًا: تمجيد الإنجاز مقابل خطاب المعاناة
ربط الرئيس بين الثورة والانطلاق نحو “الجمهورية الجديدة”، وهو مفهوم بات مركزيًا في خطاب الدولة، حيث يتم تقديم ما بعد 2013 كمشروع وطني شامل لإعادة بناء الدولة. في المقابل، لم يُغفل الرئيس الأزمة الاقتصادية الراهنة، فاعترف بـ”ثقل الأعباء” لكنه أرجعها إلى التحديات الإقليمية والالتزامات التنموية، لا إلى اختلالات في التخطيط أو الإدارة.
ثالثًا: الأمن كركيزة للاستقرار
مرة أخرى، يشكّل ملف الأمن محورًا رئيسيًا في خطاب الرئيس. تم تقديم الجيش والشرطة كأبطال للمرحلة، تمكّنوا من “دحر الإرهاب” و”حماية الجبهة الداخلية”، في مقابل الإشارة إلى من وصفهم بخطاب الكراهية والإحباط، في تلميح واضح لقوى المعارضة أو النقاش المجتمعي الناقد على منصات التواصل. وهنا يُعاد التأكيد على المعادلة الأساسية التي ارتكزت عليها مرحلة ما بعد الثورة: الأمن أولوية فوق كل شيء.
رابعًا: مخاطبة الوعي الشعبي كقوة حاسمة
قال الرئيس: “قوة مصر ليست في سلاحها وحده، بل في وعيكم”، وهي رسالة مباشرة إلى الشعب، تدعوه إلى التماسك وتجاوز الشكوك والإحباطات. هذا الخطاب يعكس إدراكًا بأن الخطر الحقيقي ليس خارجيًا، بل في “التراخي الشعبي”، أو ما يمكن وصفه بالمسافة المتزايدة بين المواطن العادي ومؤسسات الحكم.
خامسًا: تمجيد الشهداء واستحضار الرمزية الوطنية
الرسائل العاطفية كانت حاضرة بقوة، لا سيما في الحديث عن الشهداء وذويهم. هذا الطرح يعيد التذكير بثمن الاستقرار، ويوجّه شعور المواطنين نحو الفخر والامتنان بدلًا من السخط، كأنه يقول: “نحن هنا بسبب تضحيات جسيمة”، في محاولة لإعادة ربط مشاعر الناس بالمشروع الوطني القائم.
⸻
خلاصة تحليلية
خطاب الرئيس السيسي في الذكرى الثانية عشرة لثورة 30 يونيو لم يكن مجرد احتفال رمزي، بل رسالة سياسية مركّبة، تهدف إلى:
1. تعزيز الصورة العامة للمسار الحالي واستمراريته رغم الصعوبات.
2. دعم تماسك الداخل ومواجهة كل محاولات التشكيك أو الاستقطاب.
3. ربط الإنجازات الكبرى بمحطة 30 يونيو باعتبارها لحظة التحول الكبرى.
4. طمأنة الرأي العام بأن الدولة لا تغفل عن حجم الأعباء، لكنها لا تملك رفاهية التراجع.
إنه خطاب يوازن بين التحفيز والتذكير، بين الاعتراف بالضغوط والتأكيد على القدرة على تجاوزها، ويحاول أن يُبقي الحاضنة الشعبية متماسكة، ولو عبر استدعاء الذاكرة الوطنية والوجدان العام، في لحظة دقيقة تمر بها مصر والمنطقة من حولها.