قراءة تحليلية في بيان الكنيسة الإنجيلية حول أزمة نهر النيل: موقف وطني وتأييد ديني يعكس وحدة الصف

بقلم: صموئيل العشاي
في لحظة فارقة من التاريخ الوطني، أصدرت رئاسة الطائفة الإنجيلية بمصر بيانًا بالغ الدلالة، عبّر فيه الدكتور القس أندريه زكي، رئيس الطائفة، عن دعم كامل وصريح لموقف الدولة المصرية في ملف نهر النيل، الذي بات يمثل في الضمير الجمعي المصري قضية وجود لا تقبل التنازل أو التراخي.
البيان، الصادر في 15 يوليو 2025، جاء ليعكس ليس فقط موقفًا دينيًّا تضامنيًّا، بل رؤية وطنية عميقة تعي حجم التحديات وتتمسك بالثوابت، مؤكّدًا أن الحفاظ على الحقوق المائية لمصر هو واجب وطني وديني في آن، يستوجب من كل الأطياف والجهات الاصطفاف خلف الدولة ومؤسساتها.
الكنيسة الإنجيلية: منبر وطني في لحظة مصيرية
في مقدمة البيان، يثمّن القس أندريه زكي موقف القيادة السياسية المصرية، مؤكدًا أن طريقة إدارتها لهذا الملف الحساس تتسم بالحكمة والصلابة معًا، وتُظهر وعيًا كاملاً بطبيعة القضية التي تمس حياة أكثر من 100 مليون مصري. وفي الوقت ذاته، يعكس البيان التفافًا مؤسسيًّا من الطائفة الإنجيلية حول جهود الدولة المصرية في الدفاع عن حقوقها المائية.
هذه ليست المرة الأولى التي تتخذ فيها الكنيسة الإنجيلية موقفًا وطنيًّا داعمًا للدولة في أوقات المحن، لكنها هذه المرة تعبّر عن وعي بخصوصية الملف وتعقيداته الجيوسياسية والدبلوماسية، في ظل استمرار التعنت الإثيوبي وتعقيد المفاوضات بشأن سد النهضة.
الإشادة بتصريحات ترامب: انفتاح على الضمير الدولي
ربما كان أبرز ما ورد في البيان هو دعم الكنيسة الإنجيلية للتصريحات الأخيرة التي صدرت عن الرئيس الأمريكي الأسبق دونالد ترامب، والتي عبّر فيها عن تقديره لمكانة نهر النيل بالنسبة لمصر، وضرورة إيجاد تسوية عادلة لقضية سد النهضة.
ففي هذا السياق، يصف القس زكي هذه التصريحات بأنها “تعكس وعيًا عميقًا” وتُظهر إدراكًا حقيقيًّا لحساسية الموقف، خاصة حين تصدر عن شخصية لها ثقل دولي وخبرة سابقة في إدارة ملف النيل خلال فترة ولايته. فالبيان يتعامل مع هذه التصريحات بوصفها فرصة لإعادة فتح نافذة الضغط الدولي، لا سيّما من القوى العظمى، بما يخدم العدالة المائية وحقوق الشعوب.
المسؤولية الوطنية والدينية في حماية النيل
يضع البيان نهر النيل في موضعه الطبيعي: شريان حياة. ويتعامل معه ليس فقط من منطلق اقتصادي أو تاريخي، بل بوصفه رمزًا للكرامة والسيادة والاستقرار.
“حماية نهر النيل مسؤولية وطنية كبرى” – عبارة وردت في البيان تحمل في طياتها نداءً لجميع المصريين، مؤسسات وأفرادًا، دينيين ومدنيين، بأن المعركة على النهر ليست معركة الدولة وحدها، بل هي معركة ضمير ووجود. في هذه الكلمات يتجلّى البُعد الروحي للموقف، حيث يُقارب القس زكي بين العدالة الوطنية والعدالة الإلهية، وبين الحكمة السياسية والحكمة الإيمانية.
الكنيسة كشريك في بناء الدولة وصون السيادة
ربما ينسى البعض أن الطوائف الدينية في مصر ليست كيانات دينية فقط، بل هي جزء لا يتجزأ من النسيج الوطني، ولها دور أصيل في بناء الدولة وصون وحدتها. بيان الكنيسة الإنجيلية هو ترجمة حقيقية لهذا الدور، ويعبّر عن وطنية رشيدة تدرك الفارق بين الحياد في السياسة وبين الانخراط في معارك السيادة والكرامة.
البيان لا يتحدث بلغة خشبية، بل بلغة مفعمة بالروح الوطنية، ويتبنّى خطابًا عقلانيًا ومسؤولًا، يوازن بين الإيمان بالحوار والتمسك بالحقوق. ويضع الكنيسة في موقع الشريك الداعم، لا المتفرج أو المحايد، وهو موقف ينسجم مع تاريخ طويل من المشاركة الوطنية في لحظات مصيرية مرّت بها البلاد.
هذا هو صوت مصر الموحدة
في ظل حالة الاستقطاب التي يعيشها العالم، والضغوط المتزايدة على المنطقة، يأتي بيان الطائفة الإنجيلية ليضيف بُعدًا أخلاقيًا وروحيًا إلى موقف مصر من قضية سد النهضة. وهو يقدّم رسالة واضحة: مصر ليست وحدها، بل تقف خلفها قوى مجتمعها الحيّة، الدينية والثقافية، السياسية والمدنية، بكل تنوعها وتعدديتها.
هذا البيان هو تذكير رمزي بأن نهر النيل لا يجري في الجغرافيا فقط، بل في وجدان المصريين جميعًا، مسلميهم ومسيحييهم، سنة وشيعة، أقباطًا وإنجيليين وكاثوليك، شعبًا وجيشًا ومؤسسات.
نعم، النيل شريان الحياة، وصيانته ليست مجرد قضية، بل مسؤولية وطنية وإيمانية لا تقبل التراخي.
صموئيل العشاي يكتب
كاتب وباحث في الشأن العام