كيف نبني إعلام المستقبل؟ التدريب المهني هو المفتاح

بقلم: د. سوزان القليني

أستاذة الإعلام – خبيرة تطوير الإعلام والاتصال الرقمي

في زمنٍ يتغير فيه الإعلام أسرع مما نُدرك، لم يعد بناء “إعلام المستقبل” رفاهية فكرية تُطرح في الندوات أو تُكتب في خطط وزارية، بل أصبح ضرورة وطنية واستراتيجية تنموية حاسمة. فما نعيشه اليوم من ثورة تكنولوجية متسارعة وتدفّق معلوماتي لا يتوقف، يفرض علينا أن نعيد صياغة السؤال التقليدي “ماذا نُعلّم طلاب الإعلام؟” إلى سؤال أكثر عمقًا وجرأة: كيف نُعِدّ إعلاميين قادرين على التأثير في واقع متعدد الوسائط، وتحديات تتجاوز الشاشات، ومجتمعات باتت تصنع إعلامها بنفسها؟

إن بناء إعلام المستقبل لا يقتصر على تحديث المناهج أو تطوير المعدات فحسب، بل يتعلق بتغيير فلسفة الإعداد نفسها. نحن أمام جيل جديد من المتلقّين يمتلك أدوات التعبير الذاتي، ويُعيد صياغة الخطاب الإعلامي من خلال التفاعل والتعليق والمشاركة. فكيف نُعِدّ إعلاميًا قادرًا على مخاطبة هذا الجمهور الجديد؟

المعرفة وحدها لا تكفي… المطلوب تدريب مهني محترف

رغم أهمية الدراسة الأكاديمية، فإنها لم تعد تكفي وحدها لمواجهة هذا التحول الجذري في بيئة الإعلام. غرف الأخبار واستوديوهات الإنتاج ومنصات البث المباشر تُظهر بوضوح أن المعلومة النظرية، ما لم تُدعّم بمهارة عملية، تظلّ عاجزة عن خلق إعلامي مؤثر وصاحب بصمة.

الإعلامي في زمن الذكاء الاصطناعي والتقنيات التفاعلية، مطالب بأن يكون:

  • محللًا للمحتوى، لا ناقلًا له
  • مُتقنًا للأدوات الرقمية، لا مجرد مستخدم لها
  • متمكنًا من التفاعل مع جمهور متعدد اللغات والثقافات والمنصات
  • قادرًا على إنتاج محتوى في الزمن الحقيقي (Real-Time) يُواكب الحدث لحظةً بلحظة، ويواكب مزاج الجمهور بشكل لحظي

هذه المهارات لا تُكتسب من المحاضرات النظرية، بل من تجربة ميدانية حيّة، ومن بيئة تدريب تحاكي الواقع، وتُخضع المتدرب لضغوط العمل الإعلامي الحقيقي، وتعزز قدرته على اتخاذ القرار التحريري في الزمن الضاغط.

من الجامعة إلى الميدان: رحلة تحتاج إلى جسور مؤسسية

لا تزال الفجوة بين التعليم الأكاديمي والعمل الإعلامي الميداني كبيرة. في كثير من الأحيان، يتخرج طلاب الإعلام وهم يفتقرون إلى أبسط مهارات التعامل مع الكاميرا، أو إعداد تقرير رقمي بصري، أو تحليل بيانات الجمهور، أو حتى التعامل مع الميكروفون بثقة.

هذه الفجوة ليست خطأ الطالب وحده، بل هي نتيجة غياب فلسفة التدريب المهني المستمر داخل المؤسسات التعليمية. المطلوب ليس فقط إدراج التدريب في جدول الدراسة، بل تأسيس شراكات حقيقية بين كليات الإعلام والمؤسسات الإعلامية، تضمن انخراط الطالب منذ بداية دراسته في بيئة عمل حقيقية، وليس مجرد تدريب صيفي شكلي لا يتجاوز التقاط الصور التذكارية.

التدريب ليس رفاهية في آخر الطريق، بل هو أحد مداخل التكوين المهني الأولى، وهو ما يجب أن تنص عليه بوضوح سياسات التعليم الإعلامي.

نحو منظومة إعلامية قائمة على الكفاءة، لا على الشهادة فقط

مستقبل الإعلام لا يُبنى على الامتحانات الورقية ولا على حفظ القوالب النظرية، بل يُصنع داخل الاستوديو، ومن خلال الممارسة اليومية، والتعرض للواقع العملي بكل ما فيه من تحديات مهنية وضغوط أخلاقية وسرعة اتخاذ القرار.

الإعلامي الكفء ليس من يحمل شهادة فقط، بل من يُجيد العمل تحت ضغط الخبر العاجل، ويتحكم في أدواته الرقمية، ويفهم طبيعة الجمهور، ويتعامل مع وسائل التواصل كمساحات حيوية لصناعة الرأي لا مجرد قنوات نشر.

نحن بحاجة إلى إعادة تقييم فلسفة “النجاح الأكاديمي” نفسها. فكم من أوائل الدفعات لم يجدوا طريقهم إلى العمل الإعلامي لأنهم لم يتقنوا مهارات الواقع؟ وكم من أصحاب المهارات الميدانية تفوّقوا في المهنة رغم ضعف درجاتهم الدراسية؟

الخلاصة: التدريب المهني ليس ترفًا… بل هو السبيل لصناعة إعلام المستقبل

الإعلام مسؤولية، وصوت وطن، وصورة مجتمع. وإذا أردنا أن نُخرّج إعلاميين يصنعون الفرق، ويُسهمون في تشكيل الوعي الجمعي، ويواجهون طوفان التضليل، فلابد من إعدادهم بمنهج عملي حقيقي، يبدأ من اليوم الأول في الجامعة، ولا ينتهي بالتخرج.

علينا أن نُدرّبهم بأدوات الحاضر، وبفكر المستقبل، وأن نربط بين القاعات الدراسية وغرف الأخبار، بين التحليل الأكاديمي والميدان الرقمي، وأن ندرك أن الريادة في الإعلام لن تتحقق إلا حين نصنع إعلاميًا يحمل عقل الباحث، ومهارة المراسل، وبصيرة المواطن

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى