لقاء افتراضي بين السير مجدي يعقوب ود. جمال شعبان: حوار إنساني في قلب صرح طبي عالمي يجمع بين الحكمة والعلم والحنان

في قلب مدينة السادس من أكتوبر، وعلى مقربة من مدينة العالم الخالد أحمد زويل، تتلألأ قبة مركز مجدي يعقوب للقلب، كأنها مَعلم أسطوري يشع بالعلم والرحمة. وقد مالت الشمس إلى الغروب، وانعكست أشعتها الذهبية على مراكب النحاس في التصميم البديع الذي أبدعه السير نورمان فوستر، لتبدو كأنها مراكب “رع” الإله المصري، تحمل قلوب البشر نحو شاطئ الحياة. وفي هذا المشهد الفريد، جلس العالمان الكبيران: السير مجدي يعقوب، أمير القلوب، والدكتور جمال شعبان، شاعر القلب وراوي أسراره، على مقعد رخامي نُقش عليه بالهيروغليفية: “الحياة تنتصر”.
د. جمال شعبان (مشيرًا إلى النقوش):
يا معلمي وأستاذ الأساتذة… أراك بهذا التصميم العبقري تعزف سيمفونية الحياة على أوتار جذورنا المصرية العريقة… أصلها ثابت وفرعها في السماء. هذه المراكب التي كانت تحمل “رع” عبر العالم السفلي، أترانا اليوم نعيد استخدامها لحمل قلوب المصريين من ظلمة المرض إلى نور الحياة؟
السير مجدي يعقوب (ممسكًا حفنة من تراب فخاري):
بلبيس علّمتني أن الطين والقلب من جوهر واحد. وقلبي من طين هذا الوطن، لذلك بقي معطاءً، خصبًا، تنبت فيه الورود وتتفتح الأزاهير.
في طفولتي، ماتت خالتي بين يديّ بمرض في القلب، فبكيتها بالدم لا بالدموع، وآليت على نفسي منذ ذلك الحين أن أتعمق في طب القلوب، لأداوي قلوب كل الخالات والعمات من بني وطني.
أدركت وقتها أن القلب ليس مجرد عضو… إنه ذاكرة الألم والأمل.
رحلتي من قصر العيني إلى شيكاغو لم تكن عبورًا لمحيطات، بل إبحارًا في دهاليز القلب البشري.
جمال:
كيف تحولت طفولتك في الشرقية إلى ثورة في جراحة القلب العالمية؟
مجدي:
زرع أبي وعبدالناصر فينا أن الحدود الجغرافية لا تحد مصير العقل.
عندما أجريت أول زراعة قلب في عام 1980، لم تكن يداي تعملان… كان قلبي هو من يعمل.
ذاك القلب الذي حفظ أنين مرضى بلبيس ومصر.
يا دكتور جمال، البراعة التقنية وحدها لا تكفي ولا تشفي.
لابد أن يُصاحبها إيمان عميق بأن البسطاء والمحرومين يستحقون حياة كريمة، يستحقون رحمة وحنانًا وطبطبة.
جمال:
حدثني عن هذه الآلة العجيبة… القلب. كيف ينكسر لفقد حبيب أو هزّة نفسية؟ حدثني عن ميتافيزيقا القلب المنكسر.
مجدي: (يضع يده على صدره)
أثبتت أبحاثنا أن متلازمة القلب المنكسر واحدة من عقابيل حضارتنا الحديثة.
في ظل كثرة القلوب المنهكة، والفجوة المؤلمة بين الطموحات والإمكانات، وفي دوامة الحياة المادية اللاهثة الطاحنة، تضيع الأرواح.
مركزنا هذا سيُجري ما يزيد عن 12 ألف عملية قلب مجانية سنويًا… لا فرق بين عربي ولا أعجمي، لا أبيض ولا أسود، لا غني ولا فقير.
الكل سواسية في حق التداوي.
أنا أرفض أن يكون المال حاجزًا بين الإنسان والحياة.
جمال:
وماذا عن أطفال أسوان في “سلسلة الأمل”؟
مجدي: (عيناه تبرقان)
في عيون طفل صعيدي رأيت أعمق فلسفة للوجود: لماذا يعاني هذا الملاك؟
أسوان علّمتني أن يد الجراح يجب أن تكون كيد النحات المصري القديم، تصنع من الحجر روحًا.
ما أروع آباءنا الأقدمين… كانوا ينطقون الحجارة!
جمال:
يُقال إنك أثناء العمليات تهمس بأسماء الأطفال وكأنك تتلو ترانيم قديس!
مجدي: (يبتسم)
الجراحة فن، كفن الرسامين المصريين القدماء.
حين ألمس قلبًا مريضًا، أسمع ابن سينا يقول: “القلب ملك الأعضاء”.
في تلك اللحظات، يتحول المشرط إلى ريشة، والدم إلى ألوان، والجسد إلى لوحة مقدسة.
جمال:
وما أعظم ما علمتك الحياة؟
مجدي: (يقلب كفّيه)
المرضى علموني أن القلب العضوي ينبض 70 مرة في الدقيقة، أما القلب الإنساني فينبض مرة واحدة فقط: عندما يعطي دون حساب.
وأن الموت ليس عدوًا، بل مرشد قاسٍ… الحقيقة الوحيدة في عالم الزيف.
عندما عدت إلى مصر في 2009، أدركت أن عظمة الطبيب لا تكمن في عزلته داخل برج عاجي، بل في قدرته على لمس جرح وطنه.
جمال:
وصرحك هذا… أهو تحدٍ للموت؟
مجدي: (واقفًا، متكئًا على عصا من خشب الجميز)
بل هو اعتراف بالهزيمة! (يضحك)
كل هذه التقنيات، لا تقدر أن تخلق نبضة قلب واحدة.
نحن لا نصنع الحياة… نحن فقط نعيد توجيه بوصلة القلوب الشاردة، كما تفعل مراكب رع في العالم السفلي.
جمال:
كلمتك الخالدة للتاريخ؟
مجدي: (يتوجه نحو شجرة زيتون عمرها قرن)
كما قال أبي في بلبيس:
“لا تزرع في الأرض إلا جذورًا تبقى بعدك”.
هؤلاء الشباب الذين دربتهم في المركز، سيأتي بعضهم من يتفوق عليّ.
وهذا هو الخلود الحقيقي.
(تهبّ نسمة مسائية، تتحرك معها أشرعة النحاس، فتصدر رنينًا خافتًا كأنها أنغام أوركسترا خفية، فيما يختم السير مجدي يعقوب الحوار بكلماته الرنانة):
“القلب العضوي ينبض بالدم… والقلب المعنوي ينبض بالأسئلة.
وعمل الجراح أن يوثق الأواصر بين الاثنين… في تناغم واتزان”.
تحرير للنشر: صموئيل العشاي