عمارة “الإيموبيليا” ليست هى مجرد بناية على ناصية شارعى قصر النيل وشريف باشا بوسط القاهرة، كان قد شرع في بنائها المليونير المصرى “أحمد عبود باشا” عام ١٩٣٨، والذى قدرت ثروته فى ذلك الحين بحوالى ثلاثين مليون جنيهاً، إنما هى صرح كبير أُطلق عليه إبان تشييده الذى تكلف مليون ومئتي ألف جنيه “هرم مصر الرابع “.
وإذا كان الهرم الاكبر عجيبة الزمان الأولى هو أحد شهود إعجاز قدماء المصريين ، فإن “الإيموبيليا” تعتبر “حجر رشيد” حقبة من أرقى حقب مصر سياسيًا وثقافياً وإجتماعياً فى العصر الحديث ، رغم ظروف صعبة ألمّت بها متأثرة بأزمات وحروب عالمية ، ومازالت “الإيموبيليا”، لكشف أسرارها وفك طلاسمها تبحث عن “شامپليون” هذه الحقبة “الكوزموبوليتانية” الفريدة بطبيعتها وأحداثها .
فى المكان الذى بنى عليه”جاستون دي سان موريس” مدرب خيول “الخديوي توفيق” قصره على الطراز المملوكي، وإنتقلت ملكيته إلى القنصلية الفرنسية عام ١٩٣٠ ، إختار ” أحمد عبود باشا” موقع أول “كومپاوند” سكنى فى عصر مصر الحديث ، “كومپاوند الإيموبيليا”، وطرح مسابقة بين المكاتب الهندسية فى مصر وخارجها لتصميمه ، وإختار له إسماً “أفرنجياً” لترويجه، ونُشرت لذلك إعلانات فى الصحف والمجلات المصرية والعالمية.
وكان دائماً البحث عن الجديد والمختلف هو منهج “عبود باشا” الإستثماري فى أى مجال إقتحمه ، يأبى إلا أن يصبح أحد رواده ، وقد إختار تصميماً متطوراً حديثاً للبناء ، رغم أنه كان يقطن فى قصر بديع يشابه مبانى القاهرة الخديوية العريقة، بات حالياً – بعد تأميم ممتلكاته فى مطلع الستينات- مقراً لكلية الفنون الجميلة والعمارة بحى الزمالك .
صمم المهندسان الإيطاليان الفائزان بالمسابقة “ماكس أذرعى وجاستون روسى”، على الطراز الفرنسى “الإيموبيليا”، من نوافذها ترى النيل وأهرام الجيزة وقبة كنيسة سان چورچ ، وتزيد عدد وحداتها على الثلاثمائة وحدة بتدفئة ذاتية، يخدمها إثنا عشر مصعداً”پريمو وسكوندو وأثاث”، وتحتها أربعون متجراً ومكان مخصص لإنتظار مئة سيارة على الأقل، وأساس لا يتأثر بالزلازل ، وإشترك فى بنائها -الذى إستغرق ثلاث سنوات- أكثر من أربعة آلاف عامل, وصُنِفَت أنها أفخم “ناطحة سحاب”للسكن فى المملكة .
أباطرة الفن والسياسة ورجال الأعمال كانوا من قاطني “الإيموبيليا”، من عبد الوهاب والريحاني وأنور وجدى وليلى مراد وغيرهم، إلى إسماعيل باشا صدقى وفؤاد باشا سراج الدين وإبراهيم باشا عبد الهادى رئيس الوزراء وأقرانهم ، وتردد خفى لملك البلاد ، إلى سلڤادور “شيكوريل” وريمون صبرى الجواهرجي الأشهر ونظرائهم ، وعائلات من المصريين اليهود والأرمن والأصول الفرنسية، وكان لها مديراً أجنبياً متخصصاً هو “چول آرنو “.
نجوم كرة القدم بالنادى الأهلي، كان يجتمع بهم “عبود باشا” فى بهو الإستقبال ترويجاً لشغل الوحدات الذى تعثر وتأخر ، بعد أن وصلت قيمة إيجار الوحدة شهرياً إلى إثنى عشر جنيهاً ،فكان الإعفاء من إيجار الأشهر الأولى مسلكاً ، وكان قد تبرع مناصفة مع “عبد الحميد باشا عبد الحق” وزير الشئون الإجتماعية وقتها بستة آلاف جنيهاً لبناء مجمع السباحة بالنادى والقائم حتى الآن، وأصبح “عبود باشا” بعد ذلك ولمدة خمسة عشر عاماً ٤٦-١٩٦١ رئيساً للنادى الأهلي فى عصره الذهبى .
الإعلامى الشهير حافظ عبد الوهاب، أجرى بعض الپروڤات ، وقام ببث بعض برامج الإذاعة المصرية من طابق “الإيموبيليا” الأرضى ، تماماً كما تصوّر الآن أعمال الدراما فى أفخم الڤيلات، وتخللتها لأول مرة إعلانات عن محلات “سيسيل” الشهيرة للأحذية، كما تطاردنا مثيلاتها حالياً .
نفس أساليب الدعاية والتسويق، وربما بنفس الترتيب ، الأسماء الأجنبية ومكاتب هندسية عالمية وسباق بين أنماط معمارية تتغير دائماً، والإستعانة بنجوم كرة القدم والفن والإعلام والسياسة، ومد فترة السداد، ومازال بعض كبار المطورين العقاريين ينتهجونها حتى الآن، وبعد مايزيد على ثمانين عاماً من سبْق “عبود باشا”، لم تزدد وسيلة إلا مواقع التواصل الإجتماعى .
الفارق أن سكن وسط القاهرة بالقرب من الأوپرا وحديقة الأزبكية والمسارح والسينمات والسفارات والفنادق الشهيرة والمتاحف الخالدة و”جروپى” و”الأمريكين” وقصر عابدين كان هو المزية ، وأصبحت إمكانية الحياة بعيداً عن الناس خلف الأسوار، وتعدد الخدمات بداخلها حتى تعيش لأطول مدة بين أطقم الحراسة وأمام كاميرات المراقبة هى غاية المراد .
كانت البهجة وكان السرور فى دفء لقاء الناس ، وأصبحت الراحة فى البعد عنهم، والنجاة في إعتزالهم ، والسبب هو “تكنولوچيا” النصف الثاني من القرن الماضي، التى أصابت “الإنسانية” فى مقتل، وأحيت الكائن ” الاصطناعي” الثقيل .