عثمان الشويخ يكتب:مصر.. بوصلة السياحة في محيط الأشباح الجيوسياسية

دعني أُمسك اليوم بخيطٍ آخر من خيوط الحياة النابضة على أرض الكنانة: السياحة، ليس فقط باعتبارها موردًا اقتصاديًا، بل كمرآة تُجسّد صمود مصر في وجه العواصف، وتكشف عن صبرها الطويل في عالمٍ تتغير خرائطه السياسية على إيقاع الأزمات.
لطالما كانت مصر ملاذًا ومقصدًا. من الأهرامات المهيبة إلى المعابد التي تحفظ أسرار العصور، ومن الشواطئ الحالمة على ضفاف البحرين إلى النيل الذي يهمس للزائر بأغاني الحضارة… كانت – ولا تزال – مصر تحمل للعالم تجربة سياحية لا يُشبهها شيء. لكن، هل يكفي جمال المكان ليحجب عنا الغبار العالق في سماء السياسة العالمية؟
العالم من حولنا يشتعل. من غزة وإسرائيل إلى البحر الأحمر واليمن، من طهران إلى مضيق هرمز… أمواج جيوسياسية مضطربة تواصل تدافعها، وتُلقي بظلالٍ رمادية على كل ما هو مشرق. ووسط هذا المحيط المتلاطم، تُبحر السياحة المصرية – بكل مجدها وتفردها – في اختبارٍ يومي للقدرة على الصمود والبقاء.
تخيل سائحًا في كندا أو النرويج، يفتح نشرة الأخبار فيُفاجأ بصور الحرب والحرائق والانفجارات، فتذوب الحدود في ذهنه، ويظن أن القاهرة لا تبعد عن هذه البؤر سوى أمتار. هذا ما نسميه “التشويش الجغرافي” – أن تُعاني مصر من جرائم لم تقع على أرضها، وأن تدفع ثمن خريطة إعلامية لا تُفرّق بين وطن آمن وجارٍ مشتعل.
هذا التشويش يُربك قرار السفر، ويجعل بعض السياح يبحثون عن مناطق “أبعد” عن التوتر، حتى وإن كان ذلك وهمًا. تُضاف إلى ذلك تداعيات اضطراب الملاحة الجوية وارتفاع تكاليف الطيران، فضلًا عن تباطؤ الاقتصاد العالمي، ما يُقلّص من الإنفاق على السفر حول العالم. لكن مصر، كعادتها، لا تكتفي بالرثاء… بل تُقاوم.
في مواجهة هذا الضباب، تتحرك مصر بثقة وعقلانية، مرتكزة على أربع ركائز تُشكل معًا خارطة النجاة:
- الأمن أولاً… والصراحة ثانيًا
لا مقام لسائحٍ دون أمن. وهذا ما تضعه الدولة نصب عينيها، مؤمنةً بأن الطمأنينة ليست مادةً للتجميل، بل ركن أساس في التجربة السياحية. ومع ذلك، لم تلجأ مصر إلى الإنكار، بل واجهت الواقع، واعتمدت على رسائل صادقة تُبرز الفارق الجوهري بين ما يحدث إقليميًا، وما يُمكن أن يعيشه الزائر داخل حدودها.
- تنويع الأسواق: كسر الرهان الواحد
في زمن الأزمات، لا يصح التعويل على سوقٍ واحد. ولهذا تُعيد مصر تشكيل خريطتها التسويقية، فتتوجه نحو آسيا الصاعدة، وأمريكا اللاتينية المتعطشة لاكتشاف الجديد، وأفريقيا التي تُشكّل عمقًا حضاريًا واقتصاديًا واعدًا. ومع تعزيز العلاقات بالأسواق الأوروبية التقليدية، تُصاغ معادلة توازنٍ جديدة تُقلل من المخاطر وتُعزّز فرص التعافي.
- الرهان على ما لا يُقلّد
ما تملكه مصر لا يُستنسخ. لا توجد أهرامات في فيينا، ولا معبد في الأقصر يُشبهه شيء في طوكيو. هذه الأصالة هي رأسمال مصر الحقيقي. ومع تطوير السياحة الثقافية، والشاطئية، وسياحة المغامرات والعلاج والمؤتمرات، تُصاغ تجربة سياحية متكاملة تُرضي أذواقًا متعددة وتُغري زائرين من مشارب شتى.
- قوة الكلمة والصورة: منابر رقمية ودبلوماسية ذكية
الزمن تغير. والسائح لم يعد ينتظر كتيبًا مطبوعًا أو نشرة مملة. إنه يعيش على “إنستغرام” و”يوتيوب” و”تيك توك”. من هنا، كان لا بد من إطلالة رقمية ذكية تقدم الصورة الحقيقية لمصر، وترد على الشائعات، وتُحفّز القرار الإيجابي. كما أن الدبلوماسية السياحية، من خلال السفراء ووكلاء السفر والمؤتمرات الدولية، أصبحت خط الدفاع الثاني في شرح الواقع المصري وإبراز مزاياه.
نعم، تتأثر مصر بما يجري حولها، لكن تأثيرها الإيجابي أبقى. فالمكان هنا لا يبيع لحظةً عابرة، بل يُقدّم ذاكرة عمرها آلاف السنين. السائح الذي يزورنا لا يشتري غرفة فندقية فحسب، بل ينزل ضيفًا على حضارةٍ عرفت كيف تبني معبدًا قبل أن تعرف أوروبا معنى العمارة.
ومع كل تحدٍ، تزداد القناعة أن دعم السياحة ليس ترفًا، بل واجب وطني. فكل سائح يأتي هو رسالة سلام، وكل تجربة ناجحة تُسهم في بناء صورة الوطن كما يجب أن تُرى: أرضٌ آمنة، وشعب مضياف، وتاريخ لا ينتهي.