عثمان الشويخ يكتب من المدرجات إلى الشارع: كيف تصنع الروح الرياضية مجتمعًا أفضل؟

قد يظن البعض أن “الروح الرياضية” مصطلح يقتصر على الملاعب والمنافسات، وأن ثقافة الاختلاف تنحصر في تقبّل فوز أو خسارة فريق. لكن الحقيقة أن الروح الرياضية أوسع وأعمق من ذلك بكثير؛ إنها فلسفة حياة، ومفتاح لبناء مجتمع سليم متسامح وقادر على احتواء تنوّعه.

عندما يُدرك المشجّع أن اختلافه في الانتماء الرياضي ليس سوى جزء من تنوّع أكبر في الحياة، فإنه يخطو خطوة نحو فهم أكثر نضجًا للواقع. فالاختلاف سنة كونية، وقاعدة راسخة في الوجود؛ يختلف الناس في معتقداتهم، وأفكارهم، واهتماماتهم، تمامًا كما يختلفون في فرقهم المفضلة. وهذا التنوع هو ما يُثري الحياة ويجعلها نابضة بالحيوية.

لنتأمل على سبيل المثال حال الدوريات الأوروبية، وتحديدًا الدوري الإنجليزي الممتاز؛ حيث نجد أن كل الفرق، سواء التي تنافس على اللقب أو التي تكافح لتفادي الهبوط، تمتلك جماهير واسعة ومخلصة. هذا التنوع في الولاء لا يُضعف التجربة الرياضية، بل يعمّقها، ويخلق بيئة تنافسية صحية. إنه ليس ضعفًا في الانتماء، بل احترام لحق الآخر في التشجيع والحماس.

لكن ما نراه في بعض مجتمعاتنا، وخاصة في الرياضة المصرية، هو غياب هذه الروح، وظهور مظاهر من عدم تقبّل الآخر، وعجز عن استيعاب التعددية. وهذا التعصّب يُنتج لنا نشئًا غير قادر على احترام الرأي المختلف، ولا يستوعب أن التباين في الاهتمامات أمر طبيعي وبديهي.

وهنا يكمن الخطر الحقيقي. فالطفل الذي يتربّى على رفض الآخر لمجرد اختلافه في فريق كرة، قد يكبر ليصبح متعصّبًا في قضايا أكثر خطورة، كالدين أو السياسة. ينشأ على عقلية “إما أن تكون معي أو ضدي”، وهي بيئة خصبة للتطرف، تزعزع استقرار المجتمع وتضعفه.

تقبّل فلسفة الاختلاف يُشبه تنوّع الأطعمة؛ فهل يمكن لأحد أن يتناول طعامًا واحدًا طوال حياته؟ حتى أشهى الأطباق تُصبح مملة مع التكرار. ألم يقل القرآن إن بني إسرائيل ملّوا المنَّ والسلوى وطلبوا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها؟ التنوع ليس رفاهية، بل ضرورة لتجديد الحياة وإثرائها. كما يُقال: “لولا اختلاف الأذواق لبارت السلع”.

هذه دعوة إلى “تعصّب محمود”؛ تعصّب نابع من الحب والدعم لفريقك، لا من الكراهية للآخر. دعوة إلى مدرّجاتٍ تمتلئ بالاحترام قبل الحماس، حيث يتعلم الأطفال أن قبول الآخر هو أساس التعايش السلمي، وأن الرياضة يمكن أن تكون مدرسة للمواطنة، وليست ساحةً للصراع.

وعندما يكتسب الأطفال هذا الوعي في الملاعب، سينقلونه معهم إلى مجالات الحياة كافة: الدينية، والثقافية، والاجتماعية، والسياسية. فبناء مجتمع أفضل يبدأ من التفاصيل الصغيرة، من المدرجات، من طريقة تشجيعنا، من احترامنا لمن يختلفون عنا.

إن مسؤولية نشر ثقافة التعدّدية وتقبّل الآخر لا تقع على عاتق الملاعب وحدها، بل تمتد إلى كل مؤسسات المجتمع. يمكن تنظيم ندوات ثقافية في قصور الثقافة والمراكز المجتمعية، تستضيف شخصيات متنوعة للحديث عن أهمية التنوع كقيمة أساسية في التقدم.

كما يتحمّل الإعلام المرئي والمسموع والمقروء مسؤولية كبيرة. عليه أن يكفّ عن تأجيج التعصّب والانقسام، وأن يتبنى خطابًا يروّج للتفاهم والحوار. فبدلاً من التركيز على الخلافات، يمكن تسليط الضوء على نماذج من الاحترام والتعاون بين الجماهير، وبين المختلفين في الرأي أو الانتماء.

ولا يمكن إغفال دور التعليم. في المدارس والجامعات، يجب أن يُزرع في عقول الأجيال القادمة أن الاختلاف لا يعني الخلاف، وأن الحوار هو أداة حضارية للتفاهم. لماذا لا نُخصص مادة تربوية تُعلّم الطلاب كيفية التعامل مع الآراء المتنوعة باحترام؟ مادة تُعزّز الوعي الثقافي، وتُدرّبهم على التعبير عن الرأي دون الإساءة، وتُرسّخ فيهم قيم التعددية.

إن غرس هذه القيم في نفوس الأطفال والشباب – سواء من خلال الندوات أو المناهج أو الإعلام – هو الضمانة لبناء جيل قادر على تحمّل مسؤولياته، وعلى العيش في مجتمع متماسك رغم التعدد والاختلاف. جيلٌ يحمي البلاد من التطرّف والانقسام، ويقودها نحو مستقبل أكثر استقرارًا وسلامًا

اظهر المزيد

‫3 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى