صموئيل العشاي يكتب: ما بين صلاح نصر وأحمد شعبان

منذ سنوات وقبل أن يظهر اسم العقيد أحمد شعبان على السطح، وجّهت سؤالاً مباشراً إلى عدد من الوكلاء السابقين في جهاز المخابرات العامة، وكذلك إلى رئيس هيئة الأمن القومي الأسبق: ما هو الدور الحقيقي الذي لعبه الوزير صلاح نصر في صياغة وعي حقبة الستينات؟ وكيف استطاع أن يبرز نماذج مثقفة وكتّاباً كباراً بحجم محمد حسنين هيكل، وسعيد سنبل، ومفيد فوزي، وغيرهم من الأسماء التي شكّلت علامات مضيئة في تاريخ وطننا الثقافي والإعلامي؟

هذا السؤال لم يكن من باب الفضول فقط، بل من رغبة في فهم آلية صناعة الوعي ودور الدولة في احتضان المثقفين وتوجيه الإعلام. وهنا أضع مقارنة هادئة بين رجلين، مع حفظ الألقاب والمقامات: اللواء صلاح نصر، رئيس جهاز المخابرات العامة وأحد مؤسسيه الكبار، والعقيد أحمد شعبان، الضابط المثقف في الجهاز ذاته. كلاهما، في سياق تاريخي مختلف، ترك بصمة على مشهدنا الصحفي والإعلامي.

صلاح نصر: صناعة جيل وصياغة مشروع

في ستينات القرن الماضي، كان الإعلام جزءاً من مشروع دولة يحمل رؤية واضحة. لعب صلاح نصر دوراً محورياً في هذا السياق، حيث وفّر للصحفيين والمثقفين بيئة مواتية للظهور والتأثير. أسماء مثل هيكل وسنبل ومفيد فوزي لم تكن لتسطع بهذه القوة لولا وجود دولة تساندهم، ورجل مثل صلاح نصر يؤمن بقدرتهم على التعبير عن روح الثورة وتثبيت دعائمها.

كان الإعلام في تلك المرحلة حكومياً صرفاً، صوتاً واحداً موجهاً للجمهور، لكنه امتلك قوة التأثير بحكم ندرة المنابر، وهو ما منح الصحافة المصرية حينها هيبة ومكانة جعلتها جزءاً من صناعة القرار. بهذا المعنى، لم يكن صلاح نصر مجرد مسؤول أمني، بل كان جزءاً من منظومة الدولة الثقافية والإعلامية التي صنعت وعياً جماعياً متماسكاً.

أحمد شعبان: اجتهاد في زمن الضوضاء

بعد ثورة 30 يونيو، ظهر على الساحة اسم العقيد أحمد شعبان، الضابط المثقف، الأديب، الشاعر والفنان. رجل متعدد المواهب، يمكن القول بلا مجاملة إنه مبدع حقيقي في زمن قل فيه المبدعون. منح وقتاً وجهداً لدعم شباب الصحفيين، ويُقال إنه لعب دوراً في صعود عدد منهم إلى مواقع قيادية داخل المؤسسات الصحفية، في محاولة لإعادة ضخ دماء جديدة وإحياء دور الصحافة التقليدية.

لكن المشهد كان مختلفاً كلياً عمّا واجهه صلاح نصر. لم يعد الإعلام الرسمي هو المصدر الوحيد، بل أصبح مجرد طرف وسط ضجيج لا ينتهي من قنوات خاصة، ومنصات رقمية، وصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي. هنا كان على أحمد شعبان أن يعافر في بيئة شديدة التعقيد، بيئة تفتقد إلى مركزية الصوت وتغلب عليها الفوضى الإعلامية.

سياق مختلف وتحديات مضاعفة

الفارق بين الأمس واليوم كبير. ففي زمن صلاح نصر، كان الإعلام أداة في يد الدولة، بينما في زمن أحمد شعبان، كان الإعلام ساحة مفتوحة تتنازعها قوى متعارضة:

  • شبكات التواصل الاجتماعي تحولت إلى سلاح رئيسي في تشكيل الرأي العام، لكن تحت هيمنة أجهزة استخبارات دولية تسعى لتوجيه العقول والسيطرة على اتجاهات الشعوب.
  • قنوات ومواقع وصفحات إخوانية تبث على مدار الساعة خطاباً معادياً لمصر، بتمويل واضح من حكومات وأجهزة مخابرات لا تخفي عداءها، وتسعى لإسقاط الدولة المصرية ضمن مخططات معلنة من “النيل إلى الفرات”.
  • تراجع الصحافة الورقية وفقدانها جزءاً كبيراً من جمهورها، ما خلق أزمة ثقة بين القارئ والمؤسسات الصحفية الرسمية.

محاولات الإصلاح ومعالجة الأزمات

في ظل هذه الظروف الصعبة، حاول أحمد شعبان أن يقدم حلولاً لعدد من المشاكل الجوهرية التي تعانيها الصحافة والإعلام في مصر:

  • استعادة ثقة الجمهور عبر الدفع بوجوه شبابية جديدة تحمل قدراً من المصداقية والحيوية.
  • إيجاد مشروع وطني للإعلام يتجاوز العشوائية الحالية ويعيد للمحتوى الإعلامي هدفه الأساسي: حماية الوعي الجمعي.
  • معالجة ضعف الكوادر من خلال فتح المجال أمام الشباب، ودعمهم للعب أدوار قيادية في مؤسسات ترهلت بفعل الزمن.
  • توحيد الرسالة الإعلامية في مواجهة حملات التشويه، خاصة مع تشتت الأصوات بين وسائل تقليدية غير جاذبة ووسائل جديدة بلا هوية أو رؤية.

ورغم ضيق الوقت وصعوبة التحديات، نجح الرجل في أن يترك أثراً، ولو جزئياً، في مشهد متغير وساحة شديدة السيولة.

مقارنة هادئة وخاتمة

إذا كان صلاح نصر قد صنع جيلاً من الكبار الذين ارتبطت أسماؤهم بوعي ثورة يوليو ومشروعها القومي، فإن أحمد شعبان حاول أن يفتح الطريق أمام جيل جديد وسط عالم مضطرب، مليء بالضوضاء الإعلامية وحملات الاستهداف الخارجي. الأول بنى في عصر الصوت الواحد، والثاني اجتهد في عصر الضوضاء المتعددة.

أكتب هذه السطور بوازع وطني خالص. لا أعرف العقيد أحمد شعبان معرفة شخصية، ولم ألتقِ به يوماً، وكل ما أعرفه عنه مجرد صفحة على “فيس بوك”. لكنني وجدت أن من واجبي أن أضع هذه القراءة التحليلية أمام من يهمه الأمر، لعلها تكون نصيحة، أو تنبيهاً، أو إشارة إلى ما نحن فيه من تحديات تتطلب مراجعة ومصارحة

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى