عثمان الشويخ يكتب: الثانوية العامة ومستقبل الأمة: هل ما زلنا نختزل النجاح في “كليات القمة”؟

إن قاطرة التنمية الحقيقية لأي أمة هي التعليم، فبه تُبنى العقول، وتُصقل الكفاءات، وتتقدم الأوطان. وفي مصر، لطالما كان التعليم محور اهتمام، لكنه أيضاً أصبح تحت وطأة تحديات جسيمة، أبرزها نظام تقييم تقليدي لم يعد يتناسب مع متطلبات العصر، وفكر مجتمعي قاصر يختزل النجاح في مسارات محدودة.
ولعل أزمة “الثانوية العامة” التي تتكرر كل عام ليست سوى عرضاً لمرض أعمق. إنها ليست مجرد محاولات فردية للغش والتحايل، بل هي نتاج منظومة تعتمد على الحفظ والتلقين، وتفرض ضغطاً اجتماعياً ونفسياً هائلاً على الأسر والطلاب. هذا النموذج، الذي عفا عليه الزمن، لم يعد يقيس القدرة الحقيقية على الإبداع والابتكار، بل يكرس فكرة أن النجاح هو الحصول على أعلى الدرجات، بغض النظر عن الكفاءة الفعلية.
تتفاقم المشكلة مع تطور أساليب الغش الحديثة التي تفوقت على أي تشديد أمني. فقد أصبح الاعتماد على أجهزة دقيقة ووسائل اتصال متطورة، مثل السماعات المتناهية الصغر، أمراً شائعاً. هذه الثورة الهائلة في أدوات الغش تضعنا أمام حقيقة أن الحل ليس في مزيد من التشديد الأمني على لجان الامتحانات، بل في إعادة هيكلة منظومة القبول الجامعي بأسرها.
لذا، أصبح التغيير الجذري ضرورة لا رفاهية. إننا بحاجة إلى آليات تقييم جديدة، قد تكون امتحانات قدرات متخصصة على غرار نظام SAT المتبع عالمياً، والذي يركز على الذكاء التحليلي والمنطقي. هذا النظام، الذي يُعد معيارًا أساسيًا للقبول في الجامعات الأمريكية والعديد من الجامعات العالمية الأخرى، لا يعتمد على الحفظ والتلقين بل يقيس القدرات الفعلية للطالب في القراءة والكتابة والرياضيات، مما يضمن تقييمًا أكثر عدالة ودقة. أو حتى يمكننا التوجه نحو تقييم شامل يعتمد على الأنشطة والمشاريع والمواهب. هذا التغيير سيضمن أن يذهب كل طالب إلى الكلية التي تناسب قدراته وشغفه، لا درجاته فقط.
تغيير العقلية المجتمعية ومواكبة المستقبل
إن هذا الإصلاح يجب أن يتزامن مع ثورة في العقلية الجمعية. لقد ترسخت فكرة أن “كليات القمة” هي فقط الطب والهندسة، وهي فكرة كانت صحيحة في عصر مضى. لكن العالم اليوم لم يعد كما كان. إن لغة العصر الحالية هي البرمجيات، والذكاء الاصطناعي، ونظم المعلومات، والأمن السيبراني. هذه المجالات لم تعد مجرد وظائف عادية، بل أصبحت أدوات للسيادة الوطنية والأمن القومي. فالحروب لم تعد تقتصر على الجيوش التقليدية، بل امتدت لتشمل الفضاء السيبراني، ولعل ما حدث في حرب روسيا وأوكرانيا من هجمات إلكترونية متبادلة هو دليل قاطع على أن الهجمات السيبرانية هي سلاح المستقبل.
ولعل ما يؤكد ذلك سعي دولة مثل الصين، إلى تطبيق مناهج تعتمد على الذكاء الاصطناعي لطلابها بدءًا من سن السادسة، في شهر سبتمبر القادم، في إشارة واضحة إلى أن المستقبل يُبنى من الطفولة. فـ“قمة” اليوم هي تلك التي تمكن شبابنا من إيجاد حلول لمشكلات الغد، لا أن يظلوا أسيري أفكار الماضي.
ولعل هذا هو جوهر ما ألمحت إليه القيادة السياسية المصرية، حينما حثت أولياء الأمور على تغيير بوصلتهم تجاه الكليات النظرية والتوجه نحو مجالات البرمجيات والذكاء الاصطناعي. هذا التصريح، الذي فُهم خطأً من البعض، هو في حقيقته دعوة حكيمة وبعيدة النظر. إنها رسالة واضحة بأننا يجب أن نواكب الحاضر والمستقبل. هي دعوة للانتقال من مجرد استهلاك التكنولوجيا إلى إنتاجها، ومن مجرد التبعية إلى الريادة.
الخلاصة
إن القمة الحقيقية هي بناء جيل قادر على المنافسة عالمياً في أسواق العمل المستقبلية، جيل مسلح بالمهارات الرقمية والمعرفية، يدرك أن النجاح ليس في الالتحاق بلقب “كلية قمة” تقليدي، بل في بناء مسار مهني حقيقي ومؤثر في عالم دائم التطور. لقد حان الوقت لتغيير نظرتنا للتعليم، من مجرد بوابة لوظيفة إلى أداة لامتلاك المستقبل، فمستقبل أمتنا يبدأ من هنا.
جميل ومعبر
مقال يهم أطياف المجتمع المصرى
وتقدير واقعي
أحسنت النشر عثمان بيه