الرأي العام يحدد مصير الحكومة

تتصاعد التكهنات في الأوساط السياسية والإعلامية حول موعد التعديل الوزاري، فبينما يذهب البعض إلى أن الحكومة قد تشهد تغييراً قبل انتخابات مجلس النواب المقبلة في محاولة لتهدئة الشارع وإرسال رسالة إصلاحية، يرى آخرون أن السيناريو الأرجح هو الإبقاء على التشكيل الحالي حتى انتهاء الاستحقاق البرلماني، ثم تقديم الحكومة بالكامل استقالتها لفتح الطريق أمام تشكيل حكومة جديدة تعكس نتائج الانتخابات وترسم ملامح المرحلة القادمة. وفي الحالتين يبقى التغيير وارداً، لكن الأكثر إيلاماً للحكومة الحالية أن يتم ربط رحيلها بما بعد الانتخابات، إذ يصبح الاستحقاق السياسي بمثابة حكم نهائي على أدائها خلال السنوات الماضية، وتبدأ بعدها مرحلة إعادة ترتيب المشهد التنفيذي بما يتناسب مع أولويات الدولة في الفترة المقبلة.

في هذا السياق، تسعى الحكومة برئاسة الدكتور مصطفى مدبولي إلى إثبات حضورها عبر تكثيف نشاطها وإبراز ما تعتبره إنجازات للرأي العام، محاولةً تقديم نفسها كحكومة تعمل حتى اللحظة الأخيرة. هذا التوجه يبدو واضحاً في الخطاب الرسمي والظهور المكثف لرئيس الوزراء، سواء عبر مؤتمرات أو جولات ميدانية، إذ تدرك السلطة التنفيذية أن الرأي العام هو المعيار الأول لأي تقييم سياسي قادم، وأن الاستمرار أو الرحيل سيتحدد بمدى قدرتها على إقناع المواطنين بأن هناك جهوداً تُبذل على الأرض.

الملف الاقتصادي يظل العنوان الأبرز في المشهد، فالأسعار المتصاعدة أرهقت المواطنين خلال العام الماضي، وأدت إلى فقدان الثقة في قدرة الدولة على ضبط الأسواق. المبادرات الحكومية لخفض الأسعار، عبر التنسيق مع كبار الموردين والتجار، مثلت محاولة عاجلة لتخفيف الغضب الشعبي، لكنها لم تحقق اختراقاً كبيراً، إذ اعتبرها قطاع واسع من المواطنين مجرد حلول مؤقتة لا تمس جذور الأزمة. وبذلك، تحولت قضية الأسعار إلى ساحة اختبار حقيقية لقدرة رئيس الوزراء على إدارة الأزمات، وجعلت موقعه نفسه محل نقاش في الكواليس السياسية.

أما قطاع الطاقة فبات عنواناً لأزمة أكثر تعقيداً. شائعات رفع أسعار البنزين في أكتوبر هزّت صورة وزير البترول، فيما أضعفت التسريبات عن زيادة فواتير الكهرباء بنسبة تصل إلى 25% من موقف وزير الكهرباء أمام الرأي العام. مجرد تداول هذه الأرقام كفيل بإحداث ارتباك في الشارع، خاصة أن قطاع الطاقة يرتبط مباشرة بحياة المواطنين وبكلفة الإنتاج الصناعي، الأمر الذي يجعل أي خطوة في هذا الملف مؤثرة سياسياً وشعبياً.

الصحة بدورها لم تغب عن دائرة الترقب. الوزير الحالي يواجه اتهامات متكررة بتراجع مستوى الخدمة في العديد من المستشفيات الحكومية، رغم بعض محاولات التطوير الجزئية التي جرى الإعلان عنها. حالة “الخمسين بخمسين” التي تُتداول حول مستقبله تعكس ببساطة حجم الانقسام في تقييم أدائه: نجاحات محدودة من جهة، وانتقادات شعبية واسعة من جهة أخرى، ما يجعله واحداً من أكثر الوزراء عرضة للتغيير.

وفي خضم ذلك، تحاول الحكومة أن تقدم صورة أكثر اتزاناً للرأي العام عبر تسليط الضوء على إنجازاتها في مجالات البنية التحتية والمشروعات القومية والإصلاح الإداري. الرسالة واضحة: حتى إذا حدث تعديل وزاري، فهو ليس إدانة للحكومة وإنما إعادة ترتيب للصفوف لمواجهة تحديات المرحلة المقبلة. هذه الرسالة تحمل في طياتها محاولة لتخفيف وقع أي تغيير محتمل على صورة الحكومة ومكانتها السياسية.

ومع ذلك، تبقى السيناريوهات مفتوحة: هل يقتصر الأمر على تدوير محدود لبعض الوزارات الخدمية ذات الطابع الجماهيري، أم أننا أمام تعديل أوسع قد يشمل المجموعة الاقتصادية بأكملها؟ أم أن الدولة ستنتظر حتى ما بعد الانتخابات لتقديم الحكومة استقالتها، وتشكيل حكومة جديدة من الأساس؟ كل هذه الاحتمالات تظل مطروحة، لكن المؤكد أن الشارع يتعامل مع أي حديث عن تعديل كفرصة لقياس اتجاهات الدولة نحو الإصلاح، في وقت باتت فيه الأعباء الاقتصادية أكبر من قدرة المواطن العادي على الاحتمال.

في النهاية، تبدو مصر على أعتاب لحظة مفصلية، حيث لا يكفي الحديث عن إنجازات ولا المبادرات الجزئية، بقدر ما يحتاج الشارع إلى رسائل عملية تعيد الثقة وتفتح أفقاً جديداً. وإذا كان التغيير الحكومي المرتقب مجرد خطوة سياسية، فإن اختبارها الحقيقي لن يكون في أسماء الراحلين والباقين، وإنما في قدرة أي تشكيل جديد على تقديم حلول ملموسة تخفف الضغط عن المواطن وتستجيب لمتطلبات المرحلة المقبلة

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى