الدكتور عماد جاد يكتب: الدين والتاريخ والسياسة

منذ فجر الإنسانية والدين حاضر في تفسير الإنسان لما يجري حوله من أحداث؛ فالبعض جعل منه المعيار الأول للحكم على وقائع التاريخ، ومفتاحًا لتفسير النصر والهزيمة. تُرى الهزيمة في عيون هؤلاء نصرًا مؤجَّلًا، أو امتحانًا من الله، أو عقابًا إلهيًا على الابتعاد عن صحيح الدين. بينما، في الحقيقة، الدين في جوهره إيمان قلبي صادق ينعكس في الفكر والسلوك والأخلاق، أما أحداث التاريخ وتحولاته وصراعاته الكبرى فلا تُفهم إلا في ضوء قراءة موضوعية للتاريخ وموازين القوى.

فعندما تطغى العنصرية والتطرف الديني أو العِرقي أو الطائفي، أو تتغلب الأطماع الاقتصادية والسياسية، تكون النتيجة حروبًا طاحنة وصراعات دامية لا تبقي ولا تذر. والتاريخ الإنساني مليء بالأمثلة التي تُظهر كيف أن اختلاط السياسة بالدين، أو تزييف الوعي باسم العقيدة، قاد إلى كوارث إنسانية.

يكفي أن نتذكر ما فعله العثمانيون حين أبادوا مليونًا ونصف المليون من الأرمن، واحتلوا القسطنطينية عاصمة الدولة الرومانية الشرقية، قبل أن يتعرضوا لاحقًا لهزائم كبرى قوضت إمبراطوريتهم الضخمة.

وفي القرن العشرين، جاءت الحرب العالمية الثانية لتثبت أن الحروب لا تفرق بين مؤمن وملحد، أو مسيحي ومسلم ويهودي وبوذي. فقد حصدت الحرب أرواح نحو خمسين مليون إنسان من شتى الأديان والمعتقدات، بينهم عشرون مليون روسي، سقطوا ضحية صراع عالمي قاسٍ لم يكن للدين فيه نصيب إلا كذريعة دعائية أو تبرير معنوي.

من يريد أن يفهم هذه العلاقة الشائكة بين الدين والتاريخ والسياسة، لن يجد مثالًا أوضح مما قدمه الأديب العالمي نيكوس كازانتزاكيس في روايته الخالدة “الحرية أو الموت”، التي تناول فيها مقاومة أهل جزيرة كريت للاحتلال التركي. ففيها يسأل أحد الكريتيين صديقه متحسرًا: “أين الله؟ لماذا لا يقف معنا في حرب التحرير ضد الأتراك؟” فيجيبه صديقه ساخرًا وواقعيًا في الوقت ذاته: “ربما يكون الله مشغولًا الآن بمحاربة أتراك آخرين في مكان آخر.”

هذه المفارقة الأدبية تلخص المعضلة: البحث الدائم عن تفسير ديني للنصر والهزيمة قد يكون مريحًا للبعض، لكنه لا يفسر حقيقة موازين القوى، ولا يغير من معادلات التاريخ شيئًا. النصر له شروطه المادية والمعنوية، والهزيمة لها أسبابها الموضوعية، ولا يمكن اختزال الأمر في أحكام دينية جاهزة.

إن العلاقة بين الدين والسياسة والتاريخ ستظل موضع جدل عميق، لكن المؤكد أن من يريد أن يفهم التاريخ حقًا، عليه أن يقرأه بعين العقل، لا بعين العقيدة وحدها

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى