فرج فودة.. مفكر واجه الظلام: بين حرارة السرد وغياب الغوص الفكري

لم يكن من السهل أن نرى فيلمًا وثائقيًا يُعرض على شاشة قناة رسمية مصرية يتناول سيرة المفكر الشهيد فرج فودة، الذي دفع حياته ثمنًا لمواقفه الفكرية الجريئة عام 1992. خطوة قناة الوثائقية المصرية بإنتاج فيلم “فرج فودة.. مفكر واجه الظلام” ليست مجرد مبادرة إعلامية، بل يمكن اعتبارها حدثًا استثنائيًا، لأنها كسرت جدار الصمت الطويل الذي أحاط سيرة الرجل، وأعادت طرح اسمه في الفضاء العام بعد أن حاولت جماعات الإسلام السياسي دفنه جسديًا ومعنويًا.

🔹 قوة الرؤية: حرارة بلا أقنعة وكسر المحرمات

جاء نص الفيلم مشحونًا بصدق العاطفة وحرارة التناول، حيث استطاع أن يعيد تقديم فودة للجيل الجديد بصورة كابوس حقيقي للإسلام السياسي؛ رجل حاد الذكاء، خفيف الروح، متسلح بلغة شعبية لاذعة كسرت هيبة دعاة الظلام.

لقد بدا الفيلم وفيًا لروح فودة التي جسدها طوال حياته: خطاب مباشر، جملة بلا مواربة، نبرة عالية تذكرنا بساحة المناظرات التي سطع فيها صوته، وقدرته على تحويل أعقد القضايا الفكرية إلى خطاب شعبي يصل إلى الناس في المقاهي والشوارع. فودة كان بارعًا في لغة الصحافة والجدل، يوظف السخرية والنكتة كسلاح سياسي في مواجهة خصومه الذين يعتمدون على الرهبة الدينية والصوت المرتفع.

🔹 أثر مدرسة إبراهيم عيسى

لا يمكن إغفال أن الكاتب الصحفي رضوان آدم، الذي أبدع في العمل التسجيلي، هو أحد أبناء وتلاميذ المدرسة الفكرية التي أسسها الكاتب الكبير إبراهيم عيسى. مدرسة تضع الجرأة في مواجهة التراث الديني الجامد فوق أي اعتبار. من هنا جاءت مقاطع النص مليئة بالثقة والهجوم المباشر، لكنها في بعض الأحيان على حساب العمق النقدي أو الاستشهاد التفصيلي بأفكار فودة.

🔹 الحاجة إلى مشروع أوسع

العمل الذي قدّمه آدم خطوة أولى مهمة، لكنه يفتح الباب لتساؤلات عدة: هل نستطيع قراءة فودة بعيدًا عن حادثة اغتياله؟ هل نملك الشجاعة لوضع كتبه ومقالاته تحت المجهر، ونسأل: ماذا تحقق من مشروعه للدولة المدنية، وماذا بقي حبيس الصفحات؟

كثير من المشاهدين تمنوا أن يكون الفيلم بداية سلسلة مستمرة، لا مجرد عمل منفرد، لأن فودة لم يكن مجرد ضحية، بل كان منتصرًا على خصومه في حياته قبل موته: في المناظرات، في الصحافة، وفي خطاب شعبي لاذع كسر هيبة دعاة العنف. إعادة تقديم هذا التراث لجيل جديد، لم يعش سنوات صعود الإرهاب في الثمانينيات والتسعينيات، أمر ضروري.

🔹 البعد السياسي والثقافي

إنتاج فيلم عن فرج فودة اليوم ليس مجرد استعادة تاريخية، بل هو إشارة سياسية بأن الدولة والمجتمع يبدآن مراجعة ماضي العلاقة مع التيار الديني. الفيلم يمكن أن يكون مقدمة لفتح ملف أشمل عن المثقفين الذين دفعوا حياتهم أو حريتهم في مواجهة التطرف. التحدي الحقيقي يكمن في: هل تمتلك القنوات الرسمية الجرأة الكافية لتجاوز السرد التوثيقي السريع نحو نقاش فكري حقيقي؟

🔹 الخلاصة: خطوة ناقصة لكنها مهمة

يبقى فيلم “فرج فودة.. مفكر واجه الظلام” خطوة جريئة تُحسب للوثائقية المصرية، لكنه خطوة ناقصة. لقد أعاد إلينا صورة الشهيد المقاتل بالكلمة، لكنه لم يمنحنا الفرصة الكاملة لسماع صوت المفكر وقراءة مشروعه الفكري الذي لم يُستكمل.

فودة لم يمت، لأن كتبه ما زالت قادرة على إرباك خطاب الجماعات حتى اليوم. وما يحتاجه الجيل الجديد لم يعش سنوات الإرهاب في التسعينيات هو أن يرى فودة في كامل أبعاده: شهيدًا، نعم؛ لكن أيضًا عقلًا ناقدًا، وساخرًا بارعًا، ورجلًا حلم بدولة مدنية في مواجهة عصور من الظلام

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى