طبلة الست… حين تعزف البنات لحن الفرح المصري

بقلم- صموئيل العشاي:
في كل مرة نشعر أن الغناء المصري ضاع بين ضجيج الصخب والأغاني السريعة، يظهر أمامنا أمل صغير يعيد للروح ابتسامتها. بالنسبة لي، ذلك الأمل كان اسمه طبلة الست.
أول مرة رأيت سُهى محمد علي، قائدة الفرقة، لم تكن على خشبة مسرح كبير ولا تحت أضواء لامعة، بل في احتفالات رأس السنة المصرية (الفرعونية) كما يحب أن يسميها الأستاذ سامي حرك. جلست يومها في هدوء، بملامح رقيقة وابتسامة واثقة، لم تغنِّ ولم تعزف، لكنها لفتت انتباهي بشيء لا يُرى بسهولة: حضورها. وكأن في داخلها موسيقى تنتظر اللحظة المناسبة لتتفجر.
بعدها بوقت قصير، تابعت عرضًا لفرقة طبلة الست. لم أكن مستعدًا لما رأيته. فتيات مصريات يعتلين المسرح بمرح طفولي، لكن بإصرار نساء يعرفن جيدًا قيمة ما يفعلن. أصواتهن لم تكن مجرد غناء، بل كانت دعوة صريحة للفرح، ودفوفهن لم تكن مجرد إيقاع، بل دقات قلب مصرية أصيلة. شعرت أنني لست أمام عرض فني، بل في احتفال عائلي كبير، كأن الأغاني القديمة التي كنا نسمعها في الأفراح الشعبية عادت لتتنفس من جديد.
الأمر الذي شدني أكثر أن هؤلاء البنات لم يقدمن فناً بلا هوية. لم يركضن وراء موجة المهرجانات، ولم يستنسخن القديم كما هو، بل اخترن طريقًا ثالثًا: أن يعيدن صياغة الغناء الشعبي، لكن بروحهن، بضحكتهن، وبحسهن الخاص. فجأة، وجدت نفسي أبتسم بلا سبب، أصفق مع الإيقاع كأنني جزء من المشهد. لقد جعلوني أؤمن أن الفرح يمكن أن يكون موقفًا وطنيًا أيضًا.
وما زاد دهشتي أنني عرفت لاحقًا أن كل عضوة في الفرقة تستطيع قراءة اللغة الهيروغليفية على جدران المعابد! تخيلت المشهد: فتيات صغيرات، يجلسن أمام نقوش عمرها آلاف السنين، يقرأنها كما نقرأ الصحف اليوم، ثم يترجمن هذا الإرث في صورة أغانٍ ترقص عليها الأقدام وتبتسم لها الوجوه. أي سحر هذا الذي يربط حضارتنا القديمة بصوت بناتي اليوم؟
منذ ذلك الحين، صارت طبلة الست بالنسبة لي أكثر من فرقة موسيقية. صارت رمزًا صغيرًا يحمل بداخله صورة مصر التي أحب: بسيطة، أصيلة، مليئة بالحياة. كلما استمعت إليهن شعرت أنني أستعيد شيئًا من طفولتي، من أغاني الشوارع في الأعياد، من أصوات الجيران وهم يضحكون في ليالي الصيف.
هذه ليست مجرد موسيقى، بل تجربة إنسانية كاملة. تجربة تجعلني أصدق أن مصر، مهما تغيرت الظروف، ستظل دائمًا قادرة على أن تبتكر الفرح من جديد. ومع طبلة الست، الفرح لم يعد مجرد ذكرى… بل صار حقيقة تُغنَّى من جديد