سليمان شفيق.. الفارس الذي ترجل وترك ابتسامته علامة لا تُمحى

بقلم صموئيل العشاي:
رحل الكاتب الصحفي الكبير سليمان شفيق، ورحيله لم يكن مجرد غياب اسم من أعمدة الصحافة المصرية، بل انطفاء ضوء ظل يشع لسنوات طويلة في سماء الكلمة، وصوت كان يدوّي في وجه الصمت، وضمير ظل حاضرًا بيننا حين حاول كثيرون أن يتواروا أو يساوموا أو يتراجعوا. إن رحيل سليمان شفيق ليس حدثًا عاديًا، بل وجع ثقيل يضغط على القلوب، فالرجل لم يكن مجرد قلم على ورق، بل كان شاهدًا على عصر، وصوتًا للناس، وذاكرة للوطن. وحين يغيب مثل هؤلاء، فإننا لا نفقد شخصًا بل نفقد معنى كاملًا، نفقد القدرة على رؤية الصحافة كرسالة نقية ونبيلة، ونكتشف أن الفراغ أوسع من أن يُملأ بسهولة.
وُلد سليمان شفيق في بيئة مصرية بسيطة، تشبع من طفولته بحكايات الناس وآلامهم وأحلامهم الصغيرة. لم تكن حياته في بدايتها سهلة، لكنه منذ صغره أدرك أن الكلمة يمكن أن تكون سلاحًا، وأن الصحافة يمكن أن تكون طريقًا للدفاع عن الحق. التحق بدراسة الصحافة، لكنه صنع تجربته بنفسه، فلم يكتفِ بالكتب ولا بالمراجع الجامعية، بل انغمس في الحياة اليومية، يراقب، يصغي، ويسجّل. ومنذ مقالاته الأولى، بدا واضحًا أن أمامنا قلمًا مختلفًا، قلمًا لا يعرف المساومة ولا يهوى الزينة، بل يكتب بصدق عارٍ، يجرح أحيانًا لكنه يداوي دائمًا.
مع مرور السنوات، انتقل للعمل في أكثر من صحيفة، وكتب في منابر مختلفة، لكنه لم يفقد يومًا استقلاله ولا انحيازه الثابت إلى قضايا الناس. لم يكن من الكُتّاب الذين يبحثون عن نجومية فارغة أو قرب من أصحاب النفوذ، بل كان من الذين يعرفون أن الصحافة تعني الوقوف في الصف الأول للمعركة، ولو كلفهم ذلك تعبًا أو تضييقًا أو إقصاءً. ولهذا كثيرًا ما وجد نفسه في صدام مع السلطة أو مع القوى الاجتماعية المسيطرة، لكنه لم يتراجع، بل ظل ثابتًا كمن يعرف أن الحقيقة وحدها هي التي تستحق.
ومن يتأمل مواقف سليمان شفيق يجد ثلاث دوائر كبرى رسمت مسيرته: الوطن، الهوية، والعدالة الاجتماعية. بالنسبة له كان الوطن قيمة عليا، لا مجال للتفريط فيها أو المساومة عليها، وكان يكتب عن مصر كما يكتب العاشق عن محبوبته، حادًا وصارمًا أحيانًا، لكنه في النهاية يفيض حبًا ووفاءً. وبالنسبة للهوية، لم يقبل يومًا أي محاولة لتمزيق المجتمع على أساس الدين أو الطائفة، كان يرى أن مصر لا تقوم إلا بأبنائها جميعًا، وأن المواطنة هي السبيل الوحيد لبناء دولة عادلة. كتب مئات المقالات التي تفضح التمييز وتدافع عن المساواة، وكان في ذلك وفيًا لجذوره المسيحية القبطية، لكن وفاءه الأكبر كان للمواطنة الجامعة. أما العدالة الاجتماعية، فكانت حاضرة في كل سطر كتبه تقريبًا، كان يشعر أن الصحفي إذا لم يكن صوتًا للفقراء والمهمشين فإنه قد خان رسالته، ولهذا انحاز لهم دائمًا، كتب عن العامل الذي يقضي عمره في مصنع مهمل، وعن المرأة التي تكدح في الريف، وعن الشاب الذي يطارد حلمًا صغيرًا فلا يجده.
لقد ترك سليمان شفيق إرثًا كبيرًا من المقالات والدراسات والكتب، لكنه ترك قبل كل شيء روحًا ستظل تلهم كل من يقرأ له. مقالاته عن المواطنة ستظل تُقرأ كبيان واضح عن معنى العيش المشترك في مصر، ودراساته عن العنف الطائفي ستظل وثائق مهمة لفهم واحدة من أعقد قضايا المجتمع، وكتاباته عن تاريخ الأقباط المعاصر ستبقى مرجعًا لكل باحث يريد أن يفهم لا أن يزايد. لكنه إلى جانب ذلك كله، كان صحفيًا ميدانيًا من الطراز الأول، يعرف قيمة التحقيق الصحفي الذي ينزل إلى الشارع ويتنفس الواقع، لا التحقيق الذي يُكتب من وراء مكتب.
وإن كان هذا هو سليمان شفيق الكاتب، فإن سليمان شفيق الإنسان كان أكثر رحابة ودفئًا. عرفه زملاؤه صديقًا وفيًا، لا يتأخر عن دعم أحد، وعرفه تلاميذه معلمًا صبورًا لا يبخل بالنصيحة، وعرفه القراء أبًا حنونًا يكتب كما لو كان يخاطب كل واحد منهم شخصيًا. كانت ضحكته دافئة، لكن حزنه كان عميقًا، وكان يخفي جراحه خلف ابتسامة، ويخفي دموعه خلف كلمات صلبة. كان يمشي وسط الناس كواحد منهم، يجلس معهم على المقاهي الشعبية، يسمع منهم لا عنهم، يشاركهم الحياة قبل أن يكتبها، ولذلك لم يكن غريبًا أن يشعروا أنه منهم ولهم.
والآن، ونحن نودّعه، يثقل الصمت ويغمر الحزن المكان. رحيله موجع، لأنه جاء في وقت لا تزال الصحافة المصرية في حاجة إلى ضمائر حيّة مثله. رحل قبل أن يرى بعضًا من ثمار ما زرعه، رحل وترك وراءه معارك لم تكتمل، وأحلامًا لم تتحقق. وكأن الموت كان في عجلة من أمره، لم يمنحنا فرصة كافية لنقول له شكرًا، لم يمنحه وقتًا إضافيًا ليكمل ما بدأ. واليوم، كل ما نملكه أن نقرأ كلماته فنشعر أنه ما زال بيننا، يكتب من وراء الغياب، صوته يتردّد في كل مقال، كأن الموت لم يفلح في إسكات ضمير.
الحزن عليه ليس مجرد دمعة، بل دموع متواصلة لا تجف. كل من عرفه أو قرأ له يشعر أن الفقد شخصي جدًا، كأننا فقدنا أخًا أو أبًا أو صديقًا مقربًا. إن الفقد أوسع من أن يُوصف بالكلمات، والوجع أكبر من أن يُختزل في رثاء. لكن عزاءنا الوحيد أن الكلمة الصادقة لا تموت، وأن إرثه سيبقى طويلًا بعد أن نودّعه. ستظل مقالاته حيّة، ستظل كلماته تُقرأ وكأنها كتبت اليوم، وسيظل اسمه رمزًا للشجاعة والنقاء والانحياز للمهمشين.
وداعًا سليمان شفيق، وداعًا أيها الصديق والمعلم، أيها الضمير الذي لن يتكرر. رحلت جسدًا لكنك باقٍ بيننا، ستبقى في ذاكرة كل قارئ، وفي وجدان كل صحفي شاب تعلم منك أن القلم مسؤولية. نم مطمئنًا، فقد تركت لنا ميراثًا يليق بك، وسنظل نذكرك بدموع لا تجف، وبحب لا ينقطع، وبحزن ثقيل لكنه يزداد فخرًا كلما تذكرنا أنك كنت هنا، وأنك كتبت، وأنك رحلت كما عشت: صادقًا، وفيًا، منحازًا للإنسان حتى النهاية