صموئيل العشاي يكتب: القمة تتحول إلى منصة إنذار: السيسي يحذر إسرائيل ويصوغ رؤية للوحدة

جاء خطاب الرئيس عبد الفتاح السيسي في القمة التي استضافتها العاصمة القطرية الدوحة مختلفًا في مضمونه وأسلوبه، فلم يكن مجرد كلمة بروتوكولية في محفل دبلوماسي رفيع، بل بدا وكأنه وثيقة سياسية متكاملة تعكس بصدق الموقف المصري الثابت من قضايا الأمة العربية والإسلامية. حمل الخطاب سمات الصراحة والوضوح، وتجلى فيه ما يتميز به الرئيس من حكمة وصلابة في معالجة القضايا الإقليمية والدولية المعقدة.
لقد تضمن الخطاب رسائل متعددة الاتجاهات؛ بعضها موجه إلى الداخل العربي والإسلامي لتأكيد وحدة الصف وتماسك الموقف، وبعضها الآخر إلى المجتمع الدولي لتذكيره بمسؤولياته تجاه العدوان والانتهاكات. وجاءت الكلمة متوازنة ورصينة، تبتعد عن المواربة وتتمسك بالوضوح، بما يعكس رؤية استراتيجية بعيدة المدى. ولم يقتصر الخطاب على كونه رد فعل مباشر على عدوان إسرائيلي استهدف سيادة دولة عربية، بل جاء بمثابة إعادة تأكيد لمبادئ أصيلة تبنتها مصر عبر تاريخها، وفي مقدمتها الدفاع عن القضايا العادلة وعلى رأسها القضية الفلسطينية.
بدا خطاب الرئيس أقرب إلى إعلان موقف استراتيجي شامل، يجمع بين قوة الكلمة وصلابة المبدأ، ويعيد تثبيت مصر في موقعها الطبيعي كصوت عربي صادق ومدافع أمين عن قضايا الأمة، وفي القلب منها فلسطين.
وانطلاقًا من هذا التصور الشامل، ننتقل إلى محاور الكلمة كما تبلورت في خطاب الرئيس، حيث رُصّفت الأفكار في محطات مترابطة توضح الرؤية والاستراتيجية.
أولًا: بلاغة افتتاحية تؤسس للمشهد
جاءت افتتاحية خطاب الرئيس عبد الفتاح السيسي في القمة بمثابة مدخل عميق يهيئ المستمعين لتلقي مضمون الكلمة بروح من التقدير والثقة. فقد بدأ الرئيس بتوجيه الشكر لسمو الأمير تميم بن حمد آل ثاني، أمير دولة قطر، على استضافة القمة، وهو شكر لم يكن مجرد إجراء بروتوكولي تقليدي، بل عكس إدراكًا واعيًا لأهمية الدور القطري في جمع الصف العربي في لحظة بالغة الدقة. فالمجاملة هنا لم تكن غاية في ذاتها، وإنما رسالة ضمنية بأن مصر تثمّن كل جهد صادق يسعى لتعزيز التضامن العربي ولمّ الشمل في مواجهة التحديات.
لقد جاءت هذه الافتتاحية لتضع القمة في إطارها الحقيقي: اجتماع تتجاوز أهميته حدود السياسة التقليدية ليصبح منبرًا لنصرة الحق العربي والإسلامي. فاختيار هذه البداية يعكس وعي الرئيس بأن المعركة مع إسرائيل ليست فقط معركة حدود أو مصالح، بل معركة هوية وكرامة وحقوق أصيلة لا يمكن التفريط فيها.
وبعد هذه الافتتاحية التي أرست الإطار القيمي، توجّه الخطاب إلى وصف الحدث الذي استدعى انعقاد القمة وموقف مصر الحاسم.
ثانيًا: التنديد الواضح بالعدوان الإسرائيلي
بعد الافتتاحية البليغة التي وضعت الخطاب في إطاره القيمي والأخلاقي، انتقل الرئيس عبد الفتاح السيسي مباشرة إلى جوهر الأزمة، فوجه إدانة صريحة وواضحة للاعتداء الإسرائيلي الذي استهدف سيادة دولة قطر. لم يلجأ الرئيس إلى لغة دبلوماسية مموهة أو عبارات مواربة يمكن تأويلها بأكثر من معنى، بل استخدم خطابًا مباشرًا يصف ما جرى بأنه عدوان سافر يمثل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي، وإخلالًا جسيمًا بقواعد الأمن والسلم الدوليين، فضلًا عن كونه تهديدًا مباشرًا للأمن القومي العربي.
هذا الوضوح لم يكن مجرد تعبير عن موقف سياسي، بل كان بمثابة ترسيخ لصورة مصر أمام العالم كدولة لا تساوم على الحق العربي، ولا تسمح بتجاوزات إسرائيل تحت أي مسمى أو مبرر. فالإدانة جاءت قوية وحاسمة، تعكس قناعة راسخة بأن ما يحدث لم يعد مجرد خلاف سياسي محدود، بل هو جزء من سياسة إسرائيلية ممنهجة تستند إلى الغطرسة والانفلات، وتسعى إلى فرض الأمر الواقع بالقوة العسكرية على حساب القوانين والمواثيق الدولية.
لقد أراد الرئيس من خلال هذه الرسائل أن يضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته، فاستمرار الصمت على مثل هذه الانتهاكات لا يعني سوى التواطؤ الضمني مع المعتدي. كما أن وصفه للعدوان بأنه تجاوز لكل الخطوط الحمراء يعكس تحذيرًا صريحًا بأن العالم العربي لم يعد يحتمل المزيد من الاستفزازات الإسرائيلية، وأن استمرار هذه السياسات لن يؤدي إلا إلى تصعيد خطير يهدد استقرار المنطقة بأسرها.
بهذا التنديد الواضح، رسم السيسي ملامح موقف لا يقبل التردد أو المساومة، مؤكدًا أن مصر ستظل الصوت الأعلى في مواجهة أي اعتداء على السيادة العربية، وأن الكرامة الوطنية والقومية لا يمكن أن تكون محل تفاوض.
ومن هذا الموقف الحازم انتقل الخطاب ليعرض الرؤية الجماعية الضرورية لمواجهة التحديات الراهنة.
ثالثًا: رسالة قوة ووحدة
بعد أن وضع الرئيس عبد الفتاح السيسي النقاط فوق الحروف في توصيف العدوان الإسرائيلي، انتقل بخطابه إلى بُعد أوسع يتجاوز الإدانة إلى رسم ملامح الطريق نحو المواجهة. وهنا برز البعد الاستراتيجي في حديثه حين شدد بوضوح على أن التحديات الراهنة لا يمكن لأي دولة عربية أن تتصدى لها منفردة، وأن المطلوب اليوم هو وحدة الصف وتوحيد الرؤية وتكامل الجهود.
لقد أراد الرئيس أن يبعث برسالة قوية مفادها أن قوة العرب تكمن في تضامنهم، وأن تفكك المواقف هو الثغرة التي تنفذ منها إسرائيل لتفرض هيمنتها وتواصل سياساتها العدوانية. ومن هذا المنطلق، لم يكن حديثه عن الوحدة مجرد دعوة عاطفية أو شعارًا إنشائيًا، بل تأكيدًا على مسؤولية جماعية تفرضها طبيعة المرحلة ودقة الظرف التاريخي.
وفي هذا السياق، ذكّر الرئيس العالم – وبالأخص القوى الدولية – بأن الأمن الحقيقي في المنطقة لا يمكن أن يتحقق عبر سياسات القوة أو فرض الأمر الواقع، وإنما من خلال الالتزام الصادق بالقانون الدولي والشرعية الدولية. فالقوة العسكرية قد تُفرض واقعًا مؤقتًا، لكنها لا تصنع استقرارًا دائمًا، ولا تضمن سلامًا حقيقيًا.
إن ما قصده السيسي هنا هو أن الدول العربية إذا ما تكاتفت خلف رؤية مشتركة، فإنها ستكون قادرة على ردع أي عدوان وحماية سيادتها، وفي الوقت نفسه فرض أجندة سلام عادلة قائمة على الحق والعدالة. أما إذا ظل الموقف متفرقًا، فإن كلفة الضعف ستدفعها جميع شعوب المنطقة دون استثناء.
وبذلك، ارتقى الرئيس بالخطاب من مجرد توصيف للأزمة إلى دعوة صريحة لبناء جبهة عربية – إسلامية موحدة، تكون قادرة على الدفاع عن الحقوق وصياغة مستقبل المنطقة بإرادة جماعية لا تقبل الهيمنة أو التفرد.
ومن هنا، وضع الرئيس القضية الفلسطينية محورًا لا يمكن تجاوزه في أي رؤية موحدة.
رابعًا: القضية الفلسطينية في قلب الخطاب
لم يكن من الممكن أن يمر خطاب الرئيس عبد الفتاح السيسي في قمة الدوحة دون أن تتصدر القضية الفلسطينية صلب كلماته ومحورها الأساسي. فالرئيس، وهو يدرك بحكم موقعه ومسؤولياته التاريخية حجم التحديات التي تعصف بالمنطقة، أعاد التذكير بأن مفتاح الاستقرار الإقليمي لا يكمن في معادلات القوة ولا في الترتيبات الأمنية العابرة، بل في حل عادل وشامل للقضية الفلسطينية.
وقد شدد الرئيس على أن هذا الحل لا بد أن يقوم على إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود الرابع من يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، باعتباره الأساس الوحيد القادر على إنهاء دوامة الصراع المتكررة، وفتح الباب أمام سلام حقيقي ودائم. وما يمنح هذا الموقف قوته هو أنه ليس مجرد شعار سياسي أو موقف دعائي، وإنما مبدأ استراتيجي التزمت به مصر عبر عقود طويلة، وقدمت من أجله تضحيات جسام في الساحة الدبلوماسية والعسكرية على حد سواء.
إن أهمية هذا الطرح في كلمة الرئيس تكمن أيضًا في توقيت الإعلان عنه، حيث جاء في لحظة تتصاعد فيها الانتهاكات الإسرائيلية على نحو غير مسبوق: من محاولات الضم التدريجي للأراضي، إلى التوسع في الاستيطان، وصولًا إلى مخططات التهجير القسري، وكلها ممارسات تهدد بطمس الهوية الفلسطينية واقتلاع شعب بأكمله من جذوره. وفي مواجهة هذا الواقع القاتم، بدا صوت القاهرة بمثابة جرس إنذار وتحذير من أن تجاهل جوهر القضية الفلسطينية لن يؤدي إلا إلى مزيد من الفوضى والعنف في المنطقة.
لقد أكد الرئيس السيسي بوضوح أن تجاهل حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة يعني إغلاق باب السلام، وأن أي حلول بديلة أو مؤقتة ستظل هشة وسرعان ما تنهار أمام أول اختبار. ومن ثم، فإن إعادة طرح القضية الفلسطينية بهذا العمق وفي هذا المحفل الدولي، عكس حرص مصر على إبقاء البوصلة السياسية للأمة موجهة نحو قضيتها المركزية، وعدم السماح بانشغالها بأزمات جانبية أو معارك فرعية تستنزف طاقتها.
ومن الحديث عن الحقوق انتقل الخطاب ليؤكد البعد الإنساني الذي لا يمكن التغافل عنه.
خامسًا: البعد الإنساني في الخطاب
لم يقتصر خطاب الرئيس عبد الفتاح السيسي على التحليل السياسي أو التأكيدات الدبلوماسية، بل حمل في طياته بعدًا إنسانيًا عميقًا كشف عن جوهر الموقف المصري تجاه القضية الفلسطينية. فقد أشار الرئيس بوضوح إلى المعاناة غير المسبوقة للشعب الفلسطيني، مسلطًا الضوء على عشرات الآلاف من الضحايا الأبرياء الذين سقطوا نتيجة سياسة العقاب الجماعي التي تنتهجها إسرائيل، من حصار وتجويع وحرمان من أبسط مقومات الحياة.
بهذا الطرح، بدا واضحًا أن القاهرة لا تتعامل مع القضية الفلسطينية كملف سياسي أو أمني فحسب، وإنما تنظر إليها باعتبارها قضية إنسانية في المقام الأول، قضية تمس الضمير العالمي وتختبر مدى التزام المجتمع الدولي بمبادئ العدالة والإنصاف. وهذا البعد الإنساني يميز الخطاب المصري عن غيره، لأنه يربط السياسة بالقيم، ويؤكد أن الدفاع عن الحق الفلسطيني ليس مجرد دفاع عن أرض أو حدود، بل هو أيضًا دفاع عن كرامة الإنسان وحقه في الحياة.
لقد حرص الرئيس السيسي على أن يضع العالم أمام صور المأساة اليومية: أسر مشردة، أطفال فقدوا ذويهم، شباب حُرموا من مستقبلهم، وشيوخ قضوا أعمارهم في مواجهة آلة الاحتلال. ومن خلال هذا الاستدعاء الإنساني، فإن الرسالة التي أراد إيصالها تتجاوز الأطر السياسية الضيقة لتقول للعالم: هذه ليست مجرد أرقام في تقارير إحصائية، بل أرواح بشرية تنزف كل يوم.
إن الخطاب في هذا الجانب يعكس التزام مصر بثوابتها الحضارية والإنسانية؛ فهي لم تكن يومًا دولة تبحث عن مصالح آنية على حساب القيم، بل قدمت نموذجًا لدور إقليمي مسؤول يجمع بين الدفاع عن الحقوق السياسية للشعوب، وبين التمسك بروح العدالة والرحمة. ومن هنا، فإن التأكيد على البعد الإنساني لا يضيف فقط بعدًا أخلاقيًا للخطاب، بل يضاعف من قوته السياسية، لأنه يجعل من الموقف المصري صوتًا للضمير الإنساني العالمي.
ومن البعد الإنساني انتقل الرئيس إلى تحذير واضح من عواقب استمرار المسار الراهن.
سادسًا: التحذير من تبعات السلوك الإسرائيلي
من بين النقاط البارزة في خطاب الرئيس عبد الفتاح السيسي تلك الرسالة القوية الموجهة إلى إسرائيل، حيث لم يكتفِ بمجرد توصيف الاعتداءات أو إدانتها، بل انتقل إلى مستوى أعمق حين حذّر بشكل مباشر من عواقب استمرار السياسات العدوانية. فقد شدد على أن الاحتلال، مهما طال أمده، لا يمكن أن يكون طريقًا إلى الأمن أو الاستقرار، بل هو وصفة مؤكدة لاستمرار الصراع واندلاع موجات متكررة من العنف والدمار.
لقد جاء تحذير الرئيس مزدوج البُعد: فمن ناحية، وجّه رسالة واضحة إلى صانعي القرار في إسرائيل بأن المكاسب التي حققوها عبر اتفاقيات السلام السابقة باتت على المحك، وأن استمرار سياسات الغطرسة يهدد بنسف ما تم بناؤه على مدار عقود. ومن ناحية أخرى، خاطب الرئيس المجتمع الإسرائيلي نفسه، داعيًا الشعب إلى إدراك أن الأمن الحقيقي لا يتحقق بالحصار ولا بالقوة العسكرية، وإنما بالعدل والسلام.
إن هذه المقاربة تعكس جرأة سياسية ورؤية استشرافية نادرة في الخطابات الرسمية؛ إذ قلّما نجد زعيمًا عربيًا يخاطب شعب إسرائيل مباشرة، محذرًا إياه من أن مستقبل أجياله مهدد إذا استمرت سياسات الاحتلال والتوسع. وهنا، يبرز الدور المصري كصوت عاقل ومسؤول في المنطقة، يسعى إلى تجنيبها الانزلاق نحو هاوية العنف المفتوح.
بهذا الطرح، فإن خطاب الرئيس لم يكن مجرد إدانة آنية لاعتداء محدد، بل كان قراءة استراتيجية لمآلات الوضع إذا استمرت إسرائيل في تحدي الشرعية الدولية، وهو ما يرسّخ صورة مصر كقوة إقليمية تدرك تعقيدات المشهد وتتصدى لها برؤية متوازنة تجمع بين الحزم السياسي والتحذير الأخلاقي.
ومن التحذير العملي انتقل الخطاب إلى مقترحات قابلة للتطبيق على أرض الواقع.
سابعًا: طرح حلول عملية
من أبرز السمات التي منحت خطاب الرئيس عبد الفتاح السيسي قوة ومصداقية أنه لم يتوقف عند حدود التنديد بالعدوان أو توصيف الأزمة، بل تجاوز ذلك إلى تقديم حلول عملية وواقعية تعكس إدراكًا عميقًا لتعقيدات الموقف وحاجة الأمة إلى خطوات ملموسة. فالرئيس لم يكتفِ بإعادة التأكيد على الثوابت، وإنما حرص على أن يكون خطابه بمثابة خريطة طريق سياسية تضع أمام القادة العرب والمسلمين بدائل واقعية للتحرك الجماعي.
في هذا السياق، طرح الرئيس جملة من المبادرات المهمة، منها: الدعوة إلى إنشاء آلية عربية للتنسيق والتعاون، بحيث لا تبقى التحركات رهينة للمبادرات الفردية، بل تتبلور في إطار مؤسسي قادر على مواجهة الأزمات بشكل منظم. كما أعاد التأكيد على ضرورة تفعيل “الرؤية المشتركة للأمن والتعاون في المنطقة” التي سبق أن اعتمدها مجلس الجامعة العربية، وهو ما يعكس إصرار مصر على أن تكون هذه الوثيقة مرجعية عملية للتعامل مع التحديات الإقليمية بدلًا من أن تبقى حبرًا على ورق.
أما النقطة الأكثر جرأة فتمثلت في الدعوة إلى الاعتراف الفوري بدولة فلسطين من قِبل الدول التي لم تعترف بها بعد، وهي خطوة من شأنها أن تضيف زخمًا سياسيًا وقانونيًا للقضية الفلسطينية، وتضع العالم أمام مسؤولياته في دعم الحق الفلسطيني المشروع.
بهذه الطروحات، أكد الرئيس أن مصر لا تسعى إلى الاكتفاء برفع الشعارات أو إطلاق بيانات إدانة، بل تعمل على بناء مسار عملي يترجم المواقف إلى خطوات تنفيذية. ومن هنا، بدا الخطاب المصري ليس فقط صوتًا للضمير العربي، بل أيضًا أداة لتوجيه الفعل السياسي الجماعي نحو نتائج ملموسة.
وفي سياق الحلول والتعاون، ظهر بوضوح بعد الشراكات الاستراتيجية.
ثامنًا: الأبعاد الاستراتيجية للعلاقات المصرية – القطرية
لم يكن إشادة الرئيس عبد الفتاح السيسي بدور دولة قطر في جهود الوساطة مع الولايات المتحدة لوقف إطلاق النار في غزة مجرد عبارة دبلوماسية تقليدية، بل مثلت رسالة استراتيجية عميقة المعنى. فقد جاء هذا الاعتراف العلني بدور قطر ليعكس مستوى غير مسبوق من التنسيق المصري – القطري في القضايا الإقليمية الكبرى، ويؤكد أن البلدين قد انتقلا من مرحلة الخلافات التي طبعت علاقاتهما في السنوات الماضية، إلى مرحلة جديدة تقوم على التكامل السياسي والدبلوماسي في مواجهة التحديات المشتركة.
هذا التحول يحمل دلالات بعيدة المدى، إذ إن الجمع بين ثقل مصر السياسي والعسكري، وما تمتلكه من موقع جغرافي وقدرة على التأثير في الملفات الفلسطينية والإقليمية، وبين الإمكانات القطرية في مجال الوساطة والدبلوماسية الناعمة وعلاقاتها المفتوحة مع أطراف دولية مؤثرة، يشكل معادلة متوازنة وقوية يمكن أن تعيد صياغة موازين القوى في المنطقة.
إن الإشارة الإيجابية من جانب الرئيس المصري إلى الدور القطري تعد أيضًا رسالة إلى الداخل العربي، مفادها أن الخلافات الثانوية يمكن تجاوزها إذا ما تعلق الأمر بمصير الأمة وقضاياها المركزية. كما أنها إشارة إلى المجتمع الدولي بأن الدول العربية، إذا ما توحدت، تستطيع أن تشكل قوة فاعلة قادرة على التأثير وصناعة الحلول بدلًا من أن تبقى مجرد متلقية للقرارات الخارجية.
لقد جاء هذا التوافق المصري – القطري ليعزز فكرة أن المرحلة المقبلة تحتاج إلى شبكات تعاون عربية حقيقية، تتجاوز المجاملات البروتوكولية إلى بناء شراكات استراتيجية تضع المصلحة العربية والإسلامية فوق أي اعتبار آخر.
ومن هنا جاء التأكيد على عمق الدور المصري وريادته في المنطقة.
تاسعًا: موقف مصر الثابت والقيادي
جاء خطاب الرئيس عبد الفتاح السيسي في قمة الدوحة ليعيد التأكيد على أن مصر ستبقى دائمًا في قلب المشهد العربي، لا تنسحب من قضاياه الكبرى ولا تتراجع عن التزاماتها التاريخية. فقد شدد الرئيس بوضوح على أن مصر ستظل إلى جوار أشقائها العرب، تدافع عن القضايا العادلة وفي مقدمتها الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، انطلاقًا من قناعة راسخة بأن أمن الأمة مترابط، وأن أي تهديد لفلسطين أو لأي دولة عربية هو تهديد مباشر للأمن القومي المصري.
هذا الموقف لم يكن جديدًا، بل هو امتداد لمسيرة طويلة جسدتها مصر في لحظات فارقة من التاريخ العربي المعاصر، بدءًا من دفاعها عن استقلال العراق، مرورًا بمشاركتها الحاسمة في تحرير الكويت، وصولًا إلى حماية حدودها وحدود أشقائها في أوقات الأزمات. وفي كل تلك المحطات، أثبتت مصر أنها حجر الزاوية لأي اصطفاف عربي حقيقي، وأنها تتحمل مسؤولياتها بلا تردد، مدفوعة بتاريخها ومكانتها وعمقها الحضاري.
كما أن تأكيد الرئيس على الدور المصري لم يأتِ من باب استعراض القوة أو البحث عن مكاسب سياسية، بل باعتباره واجبًا تاريخيًا وأخلاقيًا تفرضه مكانة مصر ووزنها الإقليمي. فالقيادة المصرية تدرك أن ضعف الموقف العربي يفتح المجال للتدخلات الخارجية، وأن غياب مصر عن الساحة يعني فراغًا لا يملؤه أحد. ومن هنا، فإن الخطاب جاء ليكرس مصر كـ قلب الأمة النابض، وكمظلة قادرة على جمع الصف العربي والإسلامي في مواجهة التحديات.
ومن هذا الموقف الثابت انتقل الخطاب ليضع المجتمع الدولي أمام محاسبة أخلاقية وقانونية.
عاشرًا: أبعاد الخطاب على المستوى الدولي
لم يتوقف خطاب الرئيس عبد الفتاح السيسي عند حدود الرسائل الموجهة إلى الداخل العربي ، بل تجاوز ذلك إلى المجتمع الدولي بأسره، إدراكًا منه أن الأزمة الفلسطينية – الإسرائيلية ليست شأنًا إقليميًا فحسب، بل قضية تتعلق بالسلم والأمن العالميين. فقد حمّل الرئيس المجتمع الدولي مسؤولياته القانونية والأخلاقية، داعيًا القوى الكبرى والمؤسسات الدولية إلى إنهاء حالة الإفلات من العقاب التي طالما تمتعت بها إسرائيل، والتي سمحت لها بالتمادي في سياساتها الاستيطانية والعدوانية بلا رادع.
وفي هذا السياق، جاء تحذير الرئيس واضحًا من أن استمرار العدوان الإسرائيلي لن يهدد فقط استقرار الشرق الأوسط، بل سيمتد أثره إلى العالم كله، حيث الإرهاب والفوضى والنزاعات العابرة للحدود هي نتيجة طبيعية لأي شعور بالظلم وفقدان العدالة. ومن هنا، فقد وضع الخطاب العالم أمام حقيقة أن تجاهل المظالم التاريخية للشعب الفلسطيني هو وصفة مؤكدة لاستمرار الأزمات وغياب الاستقرار.
كما أكد الرئيس أن السلام الحقيقي لن يتحقق إلا بالاعتراف الكامل بالحقوق الفلسطينية المشروعة، وعلى رأسها إقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية. وبذلك، فإنه لم يطرح رؤية مصر كخيار تفاوضي مرن، بل كمبدأ لا يمكن التنازل عنه، في محاولة لإلزام القوى الدولية بالانحياز إلى الشرعية الدولية، لا إلى موازين القوة وحدها.
وبهذا الطرح المتوازن بين القوة الأخلاقية والحزم السياسي، نجح الرئيس في أن يُحرج المجتمع الدولي أخلاقيًا وقانونيًا، ويضعه أمام اختبار حقيقي: إما الالتزام بالمواثيق التي صاغها بنفسه، أو فقدان المصداقية أمام شعوب العالم. لقد عكس الخطاب في هذا البعد قوة الموقف المصري عالميًا، ومكانة مصر كدولة لا تكتفي بالدفاع عن نفسها وعن أشقائها، بل تسعى إلى ترسيخ قواعد العدالة والسلم الدولي.
ومن ثمرات هذا الخطاب نستعرض أثره المتوقع على المستويات المختلفة.
قراءة في الأثر المتوقع للخطاب
من المؤكد أن كلمة الرئيس عبد الفتاح السيسي في قمة الدوحة لن تبقى مجرد حدث بروتوكولي عابر، بل ستترك أثرًا عميقًا ومتعدد الأبعاد على المستويات العربية والإقليمية والدولية. فقد حمل الخطاب مزيجًا من الصرامة السياسية والعمق الاستراتيجي والبعد الإنساني، الأمر الذي يجعله نقطة ارتكاز في مسار التعامل مع القضية الفلسطينية وسائر التحديات التي تواجه الأمة.
فعلى الصعيد الداخلي العربي، من المتوقع أن يسهم الخطاب في تعزيز روح التضامن والتلاحم بين الدول، حيث جاء بلغة جامعة تضع المصالح المشتركة فوق الخلافات الجزئية. إن دعوة الرئيس إلى وحدة الصف العربي ليست شعارًا إنشائيًا، بل هي صياغة لرؤية واقعية تُدرك أن مواجهة التحديات، وعلى رأسها العدوان الإسرائيلي، لن تنجح إلا بالتنسيق والعمل الجماعي. ومن هنا، فإن الخطاب قد يكون دافعًا لزيادة التقارب بين العواصم العربية والإسلامية، وتوحيد مواقفها في المحافل الدولية.
أما على المستوى الإقليمي، فقد وجّه الخطاب رسالة واضحة إلى إسرائيل بأن العرب لن يقفوا موقف المتفرج إزاء المساس بسيادة أي من دولهم. هذه الرسالة تحمل بعدًا ردعيًا مهمًا، إذ تؤكد أن العدوان على دولة عربية – أيا كانت – هو عدوان على الأمة كلها، وأن مصر لن تسمح بفرض معادلات قوة تخل بالتوازن الإقليمي.
وعلى المستوى الدولي، فإن الخطاب مرشح لأن يكون حافزًا لإعادة حشد الرأي العام العالمي خلف القضية الفلسطينية، لا سيما وأن الرئيس ركز على بعدها الإنساني والقانوني، موجهًا أصابع الاتهام إلى ازدواجية المعايير الدولية. كما أن دعوته الصريحة إلى اعتراف أوسع بدولة فلسطين تعيد إحياء النقاش العالمي حول ضرورة إنهاء الاحتلال، بما يعزز الضغوط على العواصم الكبرى لتصحيح مواقفها.
وبذلك، يمكن القول إن خطاب الدوحة سيظل علامة فارقة، ليس فقط لأنه عبر عن موقف مصر الثابت، بل لأنه أعاد رسم ملامح المشهد العربي والإقليمي والدولي في لحظة فارقة من تاريخ الصراع، واضعًا أسسًا جديدة لتحرك جماعي أكثر قوة وتأثيرًا.
إن كلمة الرئيس عبد الفتاح السيسي في قمة الدوحة لم تكن مجرد خطاب رسمي يضاف إلى أرشيف القمم العربية والإسلامية، بل كانت بمثابة بيان استراتيجي جامع أعاد التأكيد على ثوابت الموقف المصري، وفتح في الوقت ذاته أفقًا جديدًا للتحرك العربي المشترك. لقد جمع الخطاب بين الصرامة السياسية والوضوح الأخلاقي والرؤية العملية، فكان صوتًا يذكّر العالم بأن الحق الفلسطيني لا يسقط بالتقادم، وأن استقرار المنطقة لن يتحقق إلا بالسلام العادل المبني على العدالة والاعتراف الكامل بحقوق الشعب الفلسطيني.
كما أن الخطاب مثّل دعوة صريحة للوحدة العربية، ولتجاوز مرحلة الاكتفاء بالإدانة إلى مرحلة الفعل المؤثر والقرار الجماعي، ليضع الأمة أمام خيارها المصيري: إما أن تكون قوة متماسكة قادرة على حماية مصالحها، أو أن تظل رهينة للتجزئة والهيمنة الخارجية.
وبقدر ما حملت الكلمة من تحذيرات قوية لإسرائيل وللمجتمع الدولي، فإنها حملت أيضًا رسالة أمل وثقة في قدرة العرب على استعادة مكانتهم إذا ما توحدت كلمتهم وصفت إرادتهم. إنها لحظة تاريخية فارقة أكدت أن مصر، بقيادة السيسي، ستظل حجر الزاوية في معادلة الاستقرار الإقليمي وصوت الحق في مواجهة العدوان، لتبقى القمة محطة مضيئة على طريق الأمة نحو مستقبل أكثر عدلًا وأملاً.
تحليل عميق ورائع استاذ صموئيل
تحياتي 🙏🙏🙏