سيدة البترول الأولى.. من التحدي إلى الريادة

في بداياتها، لم تكن الكيميائية مايسة أحمد ترى نفسها مجرد طالبة تدرس الكيمياء داخل قاعات الجامعة، بل كانت تمتلك شغفًا أكبر وأوسع. منذ الصغر، كانت تنظر إلى الطبيعة بعيون مختلفة، فتتأمل مجرى النيل وتتساءل عن سر نقائه، وتتابع بأعين يقظة أخبار التلوث والبيئة، وكأنها كانت على موعد مسبق مع رسالتها. وعندما كبرت، لم تتردد في تحويل هذه الميول المبكرة إلى تخصص علمي، فحصلت على ماجستير في حماية البيئة، ليس باعتباره شهادة أكاديمية، بل باعتباره بداية لرحلة طويلة في طريق ملئ بالتحديات.

اختارت أن تدخل واحدًا من أصعب الميادين، قطاع البترول، الذي يعد ميدان الرجال الأول، بما فيه من قسوة ميدانية وتنافسية عالية وظروف معقدة. لم يكن الأمر سهلاً، فقد واجهت في بداياتها أسئلة خفية وصريحة: كيف يمكن لامرأة أن تقود وسط الحقول النفطية؟ وكيف تستطيع أن توازن بين صرامة المهنة وحساسيتها كأنثى؟ لكنها لم تلتفت لكل ذلك، بل جعلت عملها وحده هو الجواب. كانت دائمًا تقول بابتسامتها الواثقة: “النجاح مش محتاج كلام، النجاح محتاج فعل.”

ومع مرور السنوات، تحولت تلك الفتاة الطموحة إلى قيادية بارزة. لم يكن لقب زميلة الدفاع الوطني الذي حصلت عليه من أكاديمية ناصر العسكرية العليا مجرد شهادة شرفية، بل كان انعكاسًا لعقلية استراتيجية تتجاوز حدود التخصص العلمي الضيق. هناك، أدركت أن حماية البيئة ليست قضية علمية أو إدارية فحسب، بل هي جزء من منظومة الأمن القومي، لأن أي إهمال في البيئة هو تهديد مباشر لحياة الناس ومستقبل الأوطان. ومن هذا الوعي، صارت مايسة أحمد تفكر بمنظور أشمل، وتضع البيئة في قلب معادلة التنمية المستدامة، باعتبارها أساس الحاضر وضمان المستقبل.

في موقعها كمدير لإدارة حماية البيئة بشركة السويس للزيت “سوكو”، ظهرت ملامح شخصيتها القيادية بشكل أوضح. لم تكن من هؤلاء المديرين الذين يكتفون بالجلوس في المكاتب المكيّفة وانتظار التقارير تصل إلى مكاتبهم. بل كانت أول من يصل إلى حقول البترول وآخر من يغادرها، تجول بين العمال والمهندسين، تستمع إلى ملاحظاتهم، تتابع بأدق التفاصيل، وتضع حلولًا عملية وفورية. كثيرون من زملائها يؤكدون أن مجرد وجودها في الموقع كان يبعث فيهم الثقة، وأنها كانت تقود بالقدوة قبل أن تقود بالكلمة أو القرار.

نجاحها لم يكن وليد الصدفة، بل حصيلة سنوات من العمل الشاق والاجتهاد والإصرار. تجاوزت الصعوبات المهنية والشخصية لتثبت أن المرأة المصرية قادرة على اقتحام أصعب المجالات والريادة فيها. كانت تردد دائمًا: “التحديات مش عوائق.. التحديات درجات بتوصلك لأعلى.” بهذا الإيمان، تحولت إلى أيقونة حقيقية تلهم النساء والرجال على حد سواء، وتؤكد أن التفوق لا يعرف جنسًا أو عمرًا، بل يعرف الإرادة والعمل فقط.

رحلتها تحمل رسالة قوية للجيل الجديد. للشباب الذين يظنون أن النجاح بعيد المنال، تقول لهم مايسة أحمد إن العلم هو بداية الطريق، لكنه وحده لا يكفي. لا بد من المثابرة، والانتماء، والإيمان بأن الوطن يستحق التضحية. كانت عندما تلتقي طلاب الجامعات أو الشباب المتدربين في القطاع، تخاطبهم بروح القائدة والمعلمة قائلة: “لو بتحلم تبقى قائد، لازم تبدأ بنفسك، تشتغل بجد، وتعرف أن مصر محتاجة كل عقل مخلص.”

اليوم، عندما يُذكر اسم الكيميائية مايسة أحمد محمد، يُذكر معه الإصرار والريادة والانتماء. فهي لم تكن مجرد باحثة في مجال البيئة، ولا مجرد مديرة في قطاع البترول، بل قصة نجاح مكتملة الأركان. قصة تؤكد أن الحلم يمكن أن يصبح واقعًا إذا امتلك صاحبه الإرادة. قصة تلهم الفتيات أن الطريق مهما كان وعرًا يمكن عبوره، وتؤكد للشباب أن النجاح لا يُهدى لأحد، بل يُنتزع بالجهد والتعب.

إنها بحق سيدة البترول الأولى، امرأة صنعت لنفسها مكانًا وسط الكبار، وجعلت من العلم والإدارة والقيادة رسالة وطنية. قصة ستُروى للأجيال القادمة كدليل حي على أن المرأة المصرية قادرة على أن تكون في الصفوف الأولى، وأن البيئة ليست رفاهية بل أساس من أسس الأمن القومي. ومع كل إنجاز تحققه، تظل رسالتها الأعمق أن حماية البيئة ليست مجرد عمل وظيفي، بل واجب وطني وأمانة إنسانية

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى