الشعراوي وجمال شعبان.. لقاء افتراضي يعيد رسم العلاقة بين الدين والعلم

في فناء الأزهر الواسع، أرضيات رخامية لامعة، مآذن شاهقة تحتضن سماءً ينساب منها ضوء شمس خفيف. يجلس الدكتور جمال شعبان، طبيب القلب المعروف، بجوار الإمام محمد متولي الشعراوي. المقاعد الرخامية تبدو كأنها امتداد لتاريخ المكان، والهواء محمل برائحة البخور العتيق.

يميل الدكتور جمال قليلًا للأمام، عاقدًا يديه بتقدير، ويقول بصوت مفعم بالاحترام:

— فضيلة الإمام، أشعر بأن هذا اللقاء نعمة سابغة وفرصة نادرة أهتبلها لاستجلاء بعض الشبهات. دعنا نبدأ من بداياتكم… كيف أثرت نشأتكم في قرية دقادوس على شخصيتكم العلمية والدينية؟

يرفع الشعراوي رأسه بتواضع، وتلمع عيناه بابتسامة هادئة، قبل أن يضع يده على صدره قائلًا:

— الحياة في دقادوس علمتني أن الحكمة قد تأتي من أضعف الخلق، كطفل صغير أو نبتة بسيطة. كنت أرى في جمال الطبيعة وآيات الخلق كتابًا مفتوحًا. قرأت سطور الله في هذا الكتاب، وتدبرت آياته في كتابه المسطور – القرآن الكريم. فانهمرت خواطري عن كلام الله، وتيقنت أن العلم والدين ليسا إلا وجهين لرحمة الله.

يتنهد الدكتور جمال، ثم يضع سبابته على وجنته في إيماءة تفكير، قائلاً:

— لكن هناك من يرى أن فتاواك قد حملت بذور التشدد، وأنك أسست لنواة الفكر المتطرف…

يهز الشعراوي رأسه بحزن، ويغلق عينيه لحظة وكأنه يستحضر جرحًا قديمًا، ثم يرفع يده للسماء قائلاً:

— سامحهم الله. ظلم ذوي القربى أشد مضاضة من وقع الحسام المهند. لم أكن متشددًا ولا متطرفًا قط. كنت عبدًا فقيرًا إلى الله، راجيًا غفرانه، لا متعاليًا بعلمي ولا مدعيًا أني الإمام الأعظم. كل ما فعلته أني بسّطت آيات الله للبسطاء. ميلي كان دائمًا نحو التيسير والتسامح، لا الغلو والتشدد.

يميل الدكتور جمال بجسده إلى الوراء متأملًا، ثم يعقد حاجبيه ويقول:

— سمعت عن فتواكم بحرمة زراعة الأعضاء، ثم مراجعاتكم اللاحقة… كيف توازن بين الثبات والمرونة؟

يستقيم الشعراوي في جلسته، مشددًا على كلماته بإيماءات يده:

— الفتوى كالدواء، تُعطى بحسب الزمان والمكان. في البداية خشيت أن تصبح الأعضاء سلعة تُباع، لكن حين رأيت أنها تُنقذ أرواحًا دون ظلم، قلت: “الضرورات تبيح المحظورات”. الدين يُسر لا عسر.

يتردد الدكتور جمال قليلًا ثم يسأل بحذر، صوته ينخفض وكأنه يلامس منطقة حساسة:

— الناس انتقدت سجودك للشكر بعد هزيمة 67… كيف تفسر ذلك؟

يتنفس الشعراوي بعمق، يضع يده اليمنى على ركبته كأنه يسند جسده من ثقل الذكرى، ثم يقول بصوت هادئ:

— يا دكتور، مصر أحب بلاد الله إلي قلبي. سجودي لم يكن شماتة ولا فرحًا، بل كان استعانة بالله عند الكارثة. ألم يقل تعالى: “استعينوا بالصبر والصلاة”؟ كان السجود تطعيمًا ضد انكسار القلب من وقع الصدمة. الهزيمة لم تكن نقمة، بل كانت دافعًا لمراجعة الذات وشحذ الهمم. سجدت طلبًا للصبر، لا للتشفي. الهزيمة كانت رحمة مقنعة، تنبهنا لضعفنا بغير مدد الله.

يقترب الدكتور جمال بوجهه إلى الأمام متعاطفًا، ثم يقول بصوت مملوء بالإنسانية:

— في مسيرتك، عانيت من الحزن والمزاج العصبي وصراع طويل مع التدخين… كيف تأثرت؟

تعلو وجه الشعراوي ابتسامة حزينة، يرفع سيجارة وهمية بين أصابعه كما لو كان يستعيد المشهد، ثم يفتح كفه فجأة قائلاً:

— نعم، التدخين كان رفيقًا في ليالي العزلة، لكنه أتلف رئتيَّ. أدركت متأخرًا أن السيجارة شيطان رجيم وعدو في ثياب صديق. الإنسان يا دكتور ضعيف جدًا أمام سحر النيكوتين… “وخلق الإنسان ضعيفًا”.

يميل الدكتور جمال برأسه جانبًا باهتمام، ويبتسم ابتسامة خفيفة:

— وتحدثت عن علاقتك الطيبة بالبابا شنودة… كيف تُبنى جسور المحبة بين الأديان؟

تشرق ملامح الشعراوي، يفتح ذراعيه كمن يحتضن العالم:

— البابا شنودة كان أخًا في الإنسانية والوطنية. كنا نختلف في العقيدة، لكننا نلتقي في القلب. المحبة لا تحتاج إلى عقود مكتوبة ولا بروتوكولات، بل إلى احترام وتفهم.

يتنفس الدكتور جمال ببطء، ويضع يده على قلبه كطبيب، ثم يسأل:

— كطبيب قلب، أرى أن الحزن والهم يكسران القلب ماديًا فيما يسمى “متلازمة القلب المنكسر”. هل تؤمن أن المشاعر تؤثر على الجسد؟

ينحني الشعراوي للأمام متأملاً، ثم يرفع يده إلى صدره ويقول:

— القلب في القرآن ليس مجرد عضو، بل مركز الإدراك. الحزن يكسر القلب قبل الجسد، لكن الإيمان يصلحه. (يضحك بخفة) ربما لو عشت في زمنك، لاستعنت بعلمك في علاجي!

يقف الاثنان معًا، يتبادلان التحية بحرارة، والشمس تغيب خلف مآذن الأزهر، كأنها تختم هذا الحوار النادر بين العلم والدين، وبين قوة الجسد وضعف الروح، في مشهد مهيب يفيض بالمعاني الإنسانية

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى