قصة الأجنحة البيضاء.. شهادة عبد الحميد أحمد حمدي عن حسين سالم بين الاتهام والبراءة

يقول الكاتب عبد الحميد أحمد حمدي إن الحكاية التي سمعها من حسين سالم في جنيف، ثم تأكد منها بعد سنوات طويلة عبر وثائق ومحاكمات وكتب منشورة، تبرهن أن وراء كل رجل أعمال قصة لها وجهان. الوجه الأول هو ما يراه الناس على السطح، والوجه الثاني هو ما تكشفه الأوراق الرسمية والتجارب الشخصية. تلك القصة تكشف جانبًا آخر من حياة رجل اتهم كثيرًا وظُلم أكثر، لكنها في الوقت نفسه توضح كيف يمكن أن تختلط المصالح بالوطنية في لحظة فارقة من تاريخ مصر.
يروي عبد الحميد أنه خلال إحدى السفرات العملية المتعلقة بمشروع ميدور جلس مع حسين سالم، الذي بدأ حياته ملحقًا تجاريًا تابعًا لجهة سيادية، وبنى شبكة علاقات واسعة في العراق والخليج. انتقل بعدها إلى الإمارات حيث دخل مجال المقاولات ونافس محمد الفايد على مشروعات كبيرة، ثم توسع في إسبانيا بعد وفاة فرانكو واستثمر في الأراضي والعقارات، قبل أن يتجه إلى الولايات المتحدة ويدخل عالم النقل البحري. وهناك بدأت القصة الأخطر، القصة التي ستربطه مباشرة بمعونة كامب ديفيد ومليارات الدولارات.
كان سالم يتابع عن قرب زيارات الوفود المصرية إلى واشنطن بعد توقيع اتفاقية السلام. وحين علم أن كمال حسن علي، الذي تولى مناصب حساسة كرئيس للمخابرات ووزير للدفاع ثم رئيس للوزراء ووزير للخارجية، موجود هناك، قرر مقابلته. اللقاء الذي جرى في فندق الإقامة كشف له أن ثلث المعونة الأمريكية تقريبًا يضيع في بند النقل البحري، لأن الشروط تجبر مصر على التعاقد مع شركات أمريكية محتكرة بأسعار مضاعفة. عرض حسين سالم فكرته ببساطة: “أنا قادر أنقل السلاح بثلث التكلفة”.
كمال حسن علي اقتنع، لكنه أكد أن الأمر يحتاج موافقة الرئيس السادات. عاد حسين سالم إلى القاهرة والتقى بالسادات الذي قال له: “كمل.. بس في الإطار القانوني”، وكلف نائبه آنذاك حسني مبارك بمتابعة الموضوع معه. من هنا انطلقت الخطة لتأسيس شركة أمريكية تدخل المناقصات الفيدرالية وتكسر الاحتكار القائم.
أسس حسين سالم الشركة وجلب ضباطًا أمريكيين متقاعدين وشخصيات ذات نفوذ، بينهم مسؤول سابق في وكالة الاستخبارات المركزية توماس كلينز. دخلت الشركة المنافسة بشكل قانوني وقدمت أسعارًا أقل بنسبة تصل إلى ٨٠٪، ففازت بالعقود. النتيجة أن مصر وفرت مبالغ ضخمة كانت تستنزف من المعونة، بينما حقق حسين سالم أرباحًا معتبرة. لكن هذا النجاح لم يمر دون ثمن؛ الشركات الأمريكية الكبرى فقدت احتكارها التاريخي، وتحركت بكل أدواتها في واشنطن للانتقام.
بدأت الملاحقات القانونية باتهامات تهرب ضريبي وتلاعب في أوزان الشحن. وفي خلفية المشهد كان الهدف سياسيًا بامتياز: الضغط على حسين سالم للاعتراف بأن شخصيات مصرية كبيرة كانت تعلم وتوافق على التحايل على شروط المعونة. لو اعترف لأصبح شاهد ملك بيد الأمريكيين ورقة ضغط دائمة على القاهرة. لكنه رفض.
في عام 1983، وأمام المحكمة الأمريكية، اتخذ حسين سالم قرارًا صادمًا: اعترف بالذنب، رغم أن أوراقه كانت تثبت أنه دفع ضرائب أكثر من المطلوب. قراره كان مدركًا لمعناه، وهو إغلاق القضية دون محاكمة مفتوحة قد تُذكر فيها أسماء مصرية. القاضي سجّل اعترافه، واعتبره “شخصًا غير مرغوب فيه” في الولايات المتحدة. ومنذ ذلك التاريخ لم يدخل أمريكا إلا مرة واحدة في 2003 بتأشيرة مشروطة لحضور اجتماع مع البنك الدولي وصندوق النقد.
احتفظ حسين سالم دائمًا بصورة معلقة في مكتبه، تُظهره وهو يتسلم شيكًا من مصلحة الضرائب الأمريكية بقيمة تقارب مليوني دولار كاسترداد لضريبة زائدة. كان يراها إثباتًا لصموده ودليلاً على أنه لم يكن متهربًا، بل ضحى بسمعته لحماية وطنه من ابتزاز القوى الكبرى.
القضية لم تبق أمريكية فقط. في مصر تحولت إلى استجوابات عرفت باسم “فضيحة الأجنحة البيضاء”. سالم حاول أن يشرح للنواب تفاصيل ما جرى، لكن بدا أن البعض لم يكن يبحث عن الحقيقة بقدر ما كان يستخدم القضية كورقة سياسية. وبعد سنوات، حين حكى عبد الحميد أحمد حمدي ملخص القصة للرئيس الأسبق حسني مبارك خلال زيارته له في مستشفى المعادي، رد مبارك بجملة واحدة: “حسين سالم ما ادهموش فرصة.. كان بيحمي مصر”.
اليوم، وبعد مرور عقود، تبقى القصة نموذجًا على أن كل حكاية لها وجهان. فالبعض يرى حسين سالم رجل أعمال متهم بالفساد، فيما يراه آخرون وطنيًا تحمل الضربات وحمى بلاده من الابتزاز الدولي. ويقول عبد الحميد أحمد حمدي: “أنا لا أكتب هذه القصة للتشهير، وإنما للتوثيق. فالتاريخ لا يُفهم من زاوية واحدة، بل من وجوهه المتعددة. وحكاية حسين سالم خير شاهد على أن السياسة والاقتصاد في مصر لم يكونا يومًا قصصًا بسيطة، بل كانا دومًا جزءًا من لعبة كبرى بين القاهرة وواشنطن”