بريطانيا بين وعد بلفور وضغوط الحاضر: الاعتراف بفلسطين تصحيح للتاريخ أم خطوة سياسية ؟

في لحظة بدت وكأنها تحمل في طياتها صدى قرنٍ كامل من الألم، أعلنت بريطانيا نيتها الاعتراف رسميًا بدولة فلسطين. خطوةٌ وصفها كثيرون بأنها تحول استراتيجي حاد، يصدر من الدولة نفسها التي ارتبط اسمها قبل أكثر من مئة عام بـ وعد بلفور المشؤوم، ذلك الوعد الذي مزّق جغرافيا فلسطين، وأعطى أرضًا لمستعمرين على حساب شعب حيّ، ليؤسس لواحدة من أعقد القضايا في التاريخ الحديث.
تصحيح لخطأ تاريخي جسيم
من الصعب أن يُقرأ الموقف البريطاني الجديد بعيدًا عن إرثها الاستعماري الثقيل. فبريطانيا، التي باركت ميلاد الكيان الصهيوني على أنقاض فلسطين، تجد نفسها اليوم تحت ضغط أخلاقي غير مسبوق، داخليًا وخارجيًا، يطالبها بتصحيح خطأ لم يعد العالم قادرًا على تجاهله. الاعتراف بدولة فلسطين ليس منحة دبلوماسية، بل هو دين تاريخي في رقبة بريطانيا، تأخر سداده أكثر من مئة عام. المراقبون يرون أن القرار يحمل في جوهره محاولة لمحو وصمة بلفور، حتى وإن جاء متأخرًا، فهو يعلن انحيازًا – ولو رمزيًا – للعدالة التي طال انتظارها.
الرأي العام ينتصر لفلسطين
ما كان لهذا التحول أن يحدث لولا الغليان الشعبي داخل بريطانيا نفسها. المظاهرات المليونية في شوارع لندن ومانشستر وغلاسكو، والأعلام الفلسطينية التي غطّت ميادين بريطانيا الكبرى، جعلت القضية الفلسطينية حاضرة في قلب السياسة الداخلية. الجامعات أصدرت بيانات، الكنائس رفعت صوتها، والنقابات نظمت اعتصامات تضامنية. حتى الإعلام البريطاني – الذي طالما انحاز لإسرائيل – بدأ يراجع رواياته. حزب العمال، بذكاء سياسي، التقط هذه النغمة الشعبية، ورفع شعار الاعتراف ليكسب الشارع، مقدّمًا نفسه كحزب ينحاز للعدالة والإنسانية.
موقف يعيد التوازن الدولي
التوقيت لم يكن صدفة. فبريطانيا ما بعد البريكست تبحث عن هوية جديدة في السياسة الدولية. الاعتراف بفلسطين يمنحها أوراقًا تفاوضية في الشرق الأوسط، حيث لم يعد الصمت على المجازر في غزة مقبولًا. صور الأطفال تحت الركام، وصرخات الأمهات المكلومات، كسرت جدار الصمت العالمي، وأجبرت العواصم الكبرى على مراجعة مواقفها. العالم لم يعد ينظر إلى فلسطين كملف نزاع سياسي فحسب، بل كقضية حقوق إنسان. وبريطانيا أدركت أن وقوفها إلى جانب إسرائيل بلا حدود يخصم من مكانتها أكثر مما يفيدها.
رسالة إلى إسرائيل: لا حصانة بعد اليوم
الاعتراف البريطاني ليس مجرد ورقة دبلوماسية، بل هو صفعة سياسية لإسرائيل. إنه إعلان بأن سياسات الاحتلال والتوسع لم تعد محصنة من المحاسبة الدولية. أوروبا تتحرك: إسبانيا وأيرلندا والنرويج اعترفت، والآن بريطانيا. الرسالة إلى تل أبيب واضحة: العالم يتغير، وزمن التغاضي عن الاحتلال بلا ثمن يقترب من نهايته. إسرائيل تواجه عزلة متنامية، وكل اعتراف جديد بدولة فلسطين هو حجر آخر في جدار هذه العزلة.
فلسطين: الحق الذي لا يموت
ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن الاعتراف البريطاني، مهما كانت أهميته، لا يعيد الأرض المغتصبة ولا يوقف آلة الاحتلال وحده. لكنه يفتح نافذة أمل جديدة للفلسطينيين. إنه يقول للعالم إن صمود الفلسطينيين لم يذهب سدى، وإن تضحياتهم الممتدة عبر أجيال بدأت تؤتي ثمارها. فمن انتفاضات الأطفال في شوارع الضفة، إلى صمود غزة تحت القصف، إلى صرخات اللاجئين في الشتات، كلها مراكمة تاريخية أوصلت فلسطين إلى هذه اللحظة. لقد بدأ العالم أخيرًا يسمع صوت الضحية بدلًا من رواية الجلاد.
بين الماضي والمستقبل
إن رمزية القرار البريطاني عميقة. من الدولة التي أطلقت رصاصة البداية في مأساة القرن، إلى الدولة التي تقرّ اليوم – ولو متأخرة – بحق الفلسطينيين في دولة مستقلة. هذا التحول، بين الرمزية والمصالح، يثبت أن فلسطين لا تزال تكسب أرضًا جديدة في معركتها الطويلة، وأن كل اعتراف يقرّبها أكثر من لحظة التحرر.
كلمة أخيرة
الاعتراف بفلسطين ليس قرارًا سياسيًا عابرًا، بل هو إعلان انتصار للحق على الباطل، وللعدالة على الظلم. فلسطين ستبقى البوصلة التي تقيس بها الإنسانية أخلاقها. أرضها ستظل شاهدة على أن الشعوب قد تُهزم في معارك، لكنها لا تُكسر في حروب الوجود. واليوم، مع كل اعتراف جديد، يقترب الفجر الفلسطيني، ويُثبت العالم أن فلسطين ليست قضية منسية، بل قضية أمة، وكرامة إنسانية، ووعد حرية لا يموت