التربية قبل التعليم.. حوار خاص مع الكاتب الصحفي رفعت فياض

أجرى الحوار: محرر جريدة أبو الهول
في أعقاب الواقعة المؤسفة التي شهدتها إحدى مدارس محافظة القليوبية، حيث اعتدى طالب على معلمه داخل فناء المدرسة أمام زملائه، ثم جاء ولي الأمر ليكمل المشهد المهين بالاعتداء لفظيًا على إدارة المدرسة، اشتعل الجدل حول انهيار منظومة القيم في التعليم.
حول هذه القضية الخطيرة، أجرت أبو الهول هذا الحوار المطول مع الكاتب الصحفي الكبير رفعت فياض، مدير تحرير جريدة أخبار اليوم، الذي عرف بكتاباته المتعمقة في قضايا التعليم.
بدايةً.. كيف تقرأ المشهد الأخير داخل المدرسة؟
رفعت فياض: ما حدث لا يمكن وصفه إلا بالعار. نحن أمام طالب في مرحلة ثانوية عامة، يفترض أنه على أعتاب الرجولة، يتمادى لدرجة تمزيق ملابس معلمه فقط لأن المعلم رفض إدخال وجبة “دليفري” أثناء الحصة! هذا التصرف لا يعكس مجرد سوء سلوك فردي، بل يكشف عن خلل تربوي عميق في البيوت والمدارس معًا.
لكن ولي الأمر جاء ليكمل المشهد!
رفعت فياض: بالضبط. هنا الكارثة الكبرى. الأب جاء لا ليعتذر، بل ليتطاول على مديرة المدرسة ووكيلها بألفاظ نابية. حين يصبح ولي الأمر خصمًا للمدرسة بدلاً من أن يكون شريكًا لها في التربية، فهذه مأساة. وقديماً كان استدعاء ولي الأمر يرعب أي طالب، لأن الأب كان يأتي مناصرًا للمدرسة، مدافعًا عن حقها في تربية ابنه. أما الآن فقد انقلبت الموازين.
هل يمكن أن تروي لنا من تجاربك الشخصية مقارنة بما كان في الماضي؟
رفعت فياض: طبعًا. أتذكر عندما كنت طالبًا في الإعدادية، رأيت زميلًا يعتدي على آخر. المدرسة عاقبته فورًا، واستدعت والده. جاء الأب معتذرًا وقال: “أنتم أحرص على ابني مني، افعلوا ما ترونه صحيحًا لتربيته.” تخيل الفرق! آنذاك كان ولي الأمر يعتبر المدرسة امتدادًا للبيت. اليوم، بعض الآباء يعتبرونها مجرد “مكان لتوزيع الدرجات”، وإن حاولت أن تؤدب ابنه، تصبح أنت المتهم.
البعض يقول إن قرار الوزارة بفصل الطالب عامًا وإحالة ولي الأمر للنيابة مبالغ فيه.. ما رأيك؟
رفعت فياض: بالعكس، هو أقل ما يجب. الطالب يستحق الفصل، وولي الأمر يستحق المحاكمة. ليس لأن الواقعة خطيرة فحسب، بل لأنها تمثل رسالة رادعة: المعلم خط أحمر، والمدرسة لها هيبتها. إذا لم تتخذ الوزارة هذه الإجراءات، سنجد غدًا أن أي طالب يمكنه أن يرفع يده على معلمه بلا خوف.
ما السبب الحقيقي وراء تفشي هذه الظواهر في السنوات الأخيرة؟
رفعت فياض: السبب بسيط وعميق في الوقت نفسه: غياب التربية من المدرسة. على مدى ثلاثين عامًا تقريبًا، انهار الدور التربوي للمدرسة بسبب الاعتماد المفرط على الدروس الخصوصية. الطالب لم يعد يذهب إلى المدرسة ليتعلم القيم أو يكوّن شخصيته، بل ليجمع درجات فقط. الدروس الخصوصية لا علاقة لها بالتربية، هي مجرد تدريب ميكانيكي على الامتحانات. والنتيجة جيل يعرف لغة الشارع أكثر مما يعرف لغة القيم.
هل هذا يعني أن المسؤولية تقع على المدرسة فقط؟
رفعت فياض: أبدًا. المسؤولية مشتركة. البيت أولاً، ثم المدرسة. لكن المشكلة أن كثيرًا من أولياء الأمور أنفسهم لم يتربوا بشكل صحيح. لم يأخذوا جرعتهم الكافية من المدرسة في شبابهم، فصاروا ينقلون إلى أبنائهم ما تعلموه من الشارع. وفاقد الشيء لا يعطيه. وهكذا تتوارث الأجيال غياب التربية.
كيف ترى صورة المعلم اليوم مقارنة بما كان عليه في الماضي؟
رفعت فياض: المعلم اليوم فقد كثيرًا من هيبته، ليس لأنه تغير، بل لأن المجتمع كله تغيّر. في الماضي، كان الشاعر يقول: “قم للمعلم وفّه التبجيلا.. كاد المعلم أن يكون رسولا.” كان هذا حقيقة يعيشها الطلاب يوميًا. اليوم، المعلم يُهان أحيانًا من طالب لم يبلغ العشرين، أو من ولي أمر يظن أنه فوق النظام. هذا انقلاب خطير في القيم.
ما الحل إذن؟
رفعت فياض: الحل أن نعيد ترتيب الأولويات. اسم الوزارة هو “التربية والتعليم”، والتربية تأتي أولاً. يجب أن نعيد الانضباط إلى المدرسة، وأن نمنح المعلم سلطات حقيقية لحماية هيبته. كما يجب تفعيل القوانين التي تجرّم أي اعتداء على المعلمين أو الإدارات المدرسية. والأهم أن نزرع في وعي المجتمع كله أن المدرسة ليست مجرد مكان لحفظ المناهج، بل هي مصنع القيم وصانعة الرجال.
رسالتك الأخيرة لأولياء الأمور؟
رفعت فياض: أقول لهم بوضوح: إذا أردتم مستقبلًا أفضل لأبنائكم، فلا تبحثوا عن الدرجات فقط. ابن بلا قيم لا يساوي شيئًا، حتى لو حصل على أعلى الشهادات. التربية قبل التعليم.. وهذه مسؤوليتكم أنتم قبل أي أحد آخر