عبد المحسن سلامة: المخطط الأمريكي – الإسرائيلي يقوم على استثمار الموت وتحويل غزة إلى أرض فضاء

منذ اندلاع الحرب الأخيرة على غزة، والعالم يتابع مشاهد القتل والدمار والتهجير وكأنها لقطات من فيلم أسود بلا نهاية. لكن خلف الصورة الإنسانية البشعة، تختبئ – بحسب العديد من الكتاب والمفكرين – خطة أشد خطورة: تحويل الكارثة إلى فرصة استثمارية كبرى.
هذا ما سلط عليه الضوء الكاتب الأستاذ خالد عكاشة في سلسلة مقالاته الأخيرة التي حملت عنوانًا صادمًا هو «الاستثمار في لحم غزة الحي». المقالات كشفت عن مخطط أمريكي – إسرائيلي يقوم على إخلاء القطاع من سكانه، سواء عبر التهجير القسري أو الإبادة، ثم تحويل الأرض إلى “مشروع اقتصادي” ضخم، تُقسم فيه الغنيمة بين واشنطن وتل أبيب.
تفاصيل هذا المخطط – كما أُشير – موجودة بالفعل على مكتب الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، أعدها «معهد توني بلير للتغيير العالمي» بالتعاون مع صهره جاريد كوشنر، وبمشاركة وزراء متطرفين في حكومة نيتنياهو مثل سموتريتش. وبعد «تطهير» الأرض من أصحابها، تنطلق مشاريع عقارية وسياحية وعسكرية، وكأن غزة لم تكن يومًا أرضًا لشعب حيّ له جذور وحقوق.
أمام هذه الصورة المروّعة، يصبح السؤال: هل يمكن أن يتحول الموت الجماعي إلى مشروع مربح؟ وما خطورة مثل هذه المخططات على القضية الفلسطينية وعلى المنطقة بأكملها؟ وما الدور المطلوب من العرب، ومن الإعلام، ومن الشعوب، لفضح هذه الجريمة؟
هذه الأسئلة وأكثر، طرحناها على الكاتب الصحفي الكبير عبد المحسن سلامة، رئيس مجلس إدارة الأهرام ونقيب الصحفيين الأسبق، في هذا الحوار المطوّل مع جريدة أبو الهول.
أبو الهول: أستاذ عبد المحسن، دعنا نبدأ من حيث بدأ الجدل. كيف تلقيت سلسلة المقالات التي كتبها الأستاذ خالد عكاشة تحت عنوان «الاستثمار في لحم غزة الحي»؟
عبد المحسن سلامة: في الحقيقة، هذه المقالات تُحسب له كصحفي وباحث استراتيجي؛ لأنها لم تكتفِ بتحليل الوضع القائم، بل تجاوزت إلى تفكيك البنية الحقيقية للمخطط الجاري. العنوان كان صادمًا وموفّقًا في آن واحد، لأنه يترجم حرفيًا ما يحدث في غزة: استثمار دموي في أرواح البشر، وتحويل الحرب إلى وليمة لآكلي لحوم البشر. نحن لا نتحدث عن حرب عادية، بل عن محرقة تُدار بعقلية تجارية.
أبو الهول: إذن، ترى أن هناك مخططًا اقتصاديًا–سياسيًا وراء ما يجري؟
سلامة: نعم، وأود أن أوضح ذلك بالتفصيل: في عقلية هذا المخطط تُختصر غزة في قطعة أرض تُفرّغ من سكانها لتصبح منتجًا اقتصاديًا. ليس المقصود هنا مجرد «إعادة إعمار» بعد الحرب، بل تحويل الأرض إلى مشاريع عقارية وسياحية وعسكرية سيتم التعاقد عليها مع شركات عالمية. المال لا يكتفي بردم الحفرة؛ المال يريد استثمار الفراغ. لذلك أقول: الذي يحدث ليس فقط عنفًا عسكريًا بل هندسة ديموغرافية واقتصادية.
أبو الهول: وهل تعتقد أن هذا الكلام مدعوم بأدلة أم هو مجرد افتراض؟
سلامة: أدعاؤك يجب أن يُقابَل بتحقيق صحفي. لكن هناك إشارات قوية: الأوراق السياسية التي تمّ تداولها في دوائر تخطيطية، مشاركة جهات استشارية دولية، ووجود أسماء ارتبطت بمشروعات «ما بعد النزاع» في مناطق أخرى. هذه ليست حالة جديدة بالكامل؛ فالتاريخ يعج بأمثلة حيث استُخدمت الكوارث لإعادة تشكيل خرائط اقتصادية وسياسية لصالح جهات بعينها.
أبو الهول: هناك أسماء كبيرة ذُكرت: ترامب، كوشنر، توني بلير، سموتريتش… هل تعتقد أن هذا أمر جاد أم مجرد دعاية سياسية؟
سلامة: هذه ليست أسماء لتمرير خطاب إعلامي فحسب. هي أسماء ارتبطت فعليًا بمشروعات وسياسات إقليمية. كوشنر مثلاً شارك سابقًا في ملفات إقليمية ذات بعد اقتصادي – سياسي، ومعهد توني بلير لديه نشاطات استشارية في إعادة هيكلة مناطق ما بعد النزاع. سموتريتش يمثل الوجه السياسي المتطرف داخل إسرائيل الذي يدعم سياسات الإخراج والتهجير. عندما تجتمع أسماء من هذا النوع فالمعنى واضح: هناك تصور لإدارة ما بعد الميدان، وليس مجرد إدارة إنسانية طارئة.
أبو الهول: البعض يقول إن هناك خلافات بين واشنطن وتل أبيب حول إدارة غزة بعد الحرب. هل يمكن أن يُفشل ذلك الخطة؟
سلامة: الخلافات حقيقية لكنها تكتيكية. واشنطن قد تطالب بمظاهر شرعية دولية أو مشاركة من مؤسسات دولية، بينما إسرائيل تريد نفوذًا وتملكًا مباشرين. لكن النقطة الأساسية: سواء كان التفاهم بقيادة أمريكية أو بتنسيق إسرائيلي داخلي، النتيجة تُصبّ في بوتقة واحدة — إخلاء غزة من سكانها وتحويلها إلى منصة اقتصادية وأمنية. لذلك لا ينبغي أن نخدع أنفسنا بخلافات سطحية على التفاصيل، بينما المبدأ الجوهري متفق عليه.
أبو الهول: من خلال متابعتك، ما هي أبرز نتائج هذا المخطط على أرض الواقع حتى الآن؟
سلامة: النتائج فظيعة: عشرات الآلاف من القتلى، مئات الآلاف من الجرحى، ملايين المهدّدين بالمجاعة، وهدم البنى التحتية الصحية والتعليمية. هذا يخلق جيلًا مُقلمًا من جميع النواحي — نفسيًا، تعليمياً، صحيًا. وإذا اكتمَل المخطط، فلن تكون غزة فقط مسرحًا للتدمير، بل ذاكرة تاريخية محوّلة إلى مشروع استثماري بلا سكان. إنها عملية احتلال أخلاقية قبل أن تكون احتلالًا ماديًا.
أبو الهول: وكيف تتبلور فكرة «أرض بلا سكان» عمليًا؟
سلامة: عبر ثلاث آليات متداخلة: القتل المباشر وخلق حالة رعب تدفع الناس للرحيل، تدمير منازل ومرافق بحيث يصبح العودة مستحيلة، وإنشاء تشريعات وسياسات تمنع الرجوع أو تجعل الحياة مستحيلة للسكان السابقين. هذه آليات تُستخدم تاريخيًا في إخراج شعوب من أراضيها دون أن تبدو كإبعاد رسمي واضح.
أبو الهول: وصفتَ هذا المخطط بأنه بداية عملية لـ«إسرائيل الكبرى». كيف؟
سلامة: فكرة «إسرائيل الكبرى» ليست مجرد أمنية جغرافية؛ هي أيضًا مشروع سياسي — اقتصادي — ديموغرافي. غزة تمثل لعقود تحديًا ومحركًا لخطط التحكم في الحدود والإقليم. لو نجح مشروع إخلاء غزة، فستتحقق سلسلة نتائج: شرعنة احتلال مناطق أوسع، إعادة هيكلة البنية الديموغرافية للضفة، وفتح المجال لمشروعات بنى تحتية تربط المستوطنات بطريقة جديدة. ببساطة، نجاح المخطط سيخلق سابقة تحول المكاسب قصيرة الأمد إلى أمكنة دائمة.
أبو الهول: في ظل هذا، أين يقف العالم العربي؟
سلامة: العالم العربي أمام امتحان مزدوج: سياسي وأخلاقي. سياسيًا، المطلوب إجراء دبلوماسي منسق (قروض، مواقف في المنظمات الدولية، دعم قضائي) لمنع تحوّل الكارثة إلى مشروع. أخلاقيًا، الصمت أو الاكتفاء بالإدانات الشفهية يسهّل تمرير المخطط. على الدول العربية أن تُعلي صوتها بالمرافعات القانونية، وأن تستخدم الإدارة الدولية والمؤسسات المالية لعرقلة أي عقود استثمارية قبل التحقق من أبعادها.
أبو الهول: وهل تتوقع من العالم الغربي أن يتحرك؟
سلامة: قد يتحرّك قطاع من المجتمع الغربي — من منظمات حقوقية وصحافة مستقلة ورأي عام — إذا وُفرت لهم معلومات موثقة وصادمة تكشف الطبيعة الحقيقية للمخطط. الحكومات الغربية غالبًا ما تحسب المصالح قبل التحرك، ولكن الضغط الشعبي والإعلامي يستطيع تغيير مواقف رسمية. لذلك علينا أن نعمل على إقناع الرأي العام الغربي بمدى الفظاعة هنا.
أبو الهول: نأتي إلى الصحافة. ما الدور المطلوب منها اليوم؟
سلامة: الدور الصحفي اليوم لا يكتفي بالتقارير اليومية. المطلوب ثلاثة محاور متوازية:
1. التحقيق الاستقصائي: الوصول إلى وثائق عقود، كشوفات شركات استشارية، خطط تُعرض داخل غرف صفقة ما بعد الحرب.
2. التوثيق الحقوقي: توثيق الجرائم، جمع أدلة، شهادات ناجين، صور، أقمار صناعية إن أمكن، لإعداد ملفات يمكن استخدامها في محاكم دولية.
3. التوعية والتحشيد: ترجمة المصطلحات التقنية (مثل «إخلاء ديموغرافي» أو «خطة إعادة إعمار» عند بعض الجهات) إلى لغة مفهومة للجمهور، ودعوة منابر إعلامية عالمية للتعاون.
الصحافة تتحول هنا من ناقل أخبار إلى لاعب ضغط. ويجب ألا نخاف من هذه المسؤولية.
أبو الهول: من منظور قانوني، ما هي الخطوات الممكنة لمحاسبة من يقف خلف هذا المخطط إن ثبت؟
سلامة: الخطوات متعددة ومتشعبة: رفع قضايا أمام محاكم دولية (جنائية دولية إن توفر سبب الاختصاص)، تقديم شكاوى لمجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة، فتح تحقيقات وطنية في دول تشارك شركاتها أو شخصياتها في تنفيذ العقود، واستخدام آليات حظر السفر وتجميد الأصول للأفراد والشركات المتورطة. لكن كل ذلك يحتاج توثيقًا دقيقًا ثم تحالفًا سياسيًا دوليًا لدفع المسارات القضائية. الصحافة والحقوقيون هما اللذان يجب أن يجهزا الملفات الأولية.
أبو الهول: ما نوع التحالفات التي تقترحها لمواجهة هذا المخطط؟
سلامة: تحالف من ثلاثة محاور:
1. حقوقي–صحفي: منظمات حقوق الإنسان مع مؤسسات صحفية كبرى لتبادل الوثائق وتكثيف التوثيق.
2. دبلوماسي–قانوني: دول متضامنة تقدم ملفات إلى الأمم المتحدة والمحاكم الدولية، وتستخدم آليات الضغط الاقتصادي والدبلوماسي.
3. شعبي–إعلامي: حملات شعبية منظمة في عواصم العالم تضغط على حكوماتها لوقف أي مشاركة في إعادة إعمار تُعرض قبل ضمان عودة السكان واحترام حقوقهم.
هذه الشبكة يمكن أن تشكل حاجزًا أمام شرعنة أي مشروع اقتصادي يقوم على تصفية وجود شعب.
أبو الهول: وماذا عن المواطن البسيط؟ كثيرون يشعرون بالعجز. ماذا يفعل؟
سلامة: المواطن البسيط ليس مجرد مشاهد. يمكن أن يشارك بعدة طرق عملية:
• التبرع للمنظمات الموثوقة التي تعمل على تقديم الإغاثة وتوثيق الانتهاكات.
• المشاركة في حملات التضامن (رسائل، لقاءات مع نواب البرلمان، مشاركات في تظاهرات سلمية أمام السفارات).
• نشر المعلومات الموثقة وتجنب الشائعات التي تضعف المصداقية.
• دعم الصحافة الاستقصائية عبر الاشتراك في منصات تدعم كشف الحقائق.
كل هذه خطوات صغيرة لكنها تتجمع لتحدث تأثيرًا كبيرًا على صانعي القرار.
أبو الهول: كيف نحمي السرد الإعلامي من أن يتحول إلى مادة تحريض أو إلى تبرير للعنف المضاد؟
سلامة: التزامنا المهني يحتم علينا الدقة والتمييز بين الفضح والتحريض. نقد السياسات وتعرية المخططات لا يعني إطلاقًا تبرير العنف أو خطابات الكراهية. الصحافة مسؤولة عن إبقاء المعايير الأخلاقية: استخدام لغة مدروسة، فصل الفاعلين عن المدنيين، وعدم الترويج لصيغ تحريضية. بهذا نحافظ على مصداقيتنا ونضمن أن يبقى الغرض إنسانيًا وواضحًا.
أبو الهول: ما علاقة الشركات العالمية والمصالح الاقتصادية بالملف؟ وهل توجد سابقة تاريخية لهذا النوع من الاستثمارات على أنقاض البشر؟
سلامة: نعم هناك سوابق. في مناطق نزاعات سابقة لاحظنا أن عقود إعادة الإعمار غالبًا ما تُمنح لشركات تملك علاقات سياسية مع جهات نافذة. هذا يؤدي إلى استغلال الأزمة لفرض مشاريع لا تتوافق مع احتياجات السكان. لذلك من المهم كشف أسماء الشركات، طبيعة العقود، ومصادر تمويلها. إن تداول هذه المعلومات يعرقل الكثير من الاتفاقات التي تُبرم في السر.
أبو الهول: هل ترى في وسائل التواصل الاجتماعي سلاحًا أم تهديدًا في هذا السياق؟
سلامة: كلاهما. وسائل التواصل سلاح قوي لنشر الشهادات والصور وإثارة الضمير العالمي. لكن التحذير دائمًا من التضليل والشائعات التي قد تُضعف حملات التوثيق. لذا يجب توجيه الجمهور نحو مصادر موثوقة، وتنظيم المحتوى بواسطة صحافة احترافية توثق وتصحح وتؤكد.
أبو الهول: كلمة أخيرة لقراء أبو الهول.
سلامة: أقول لهم: لا تيأسوا. الحكاية ليست محكومة بالهزيمة إذا تحركنا من الآن. التحدي كبير لكن التضامن الإعلامي والقانوني والدبلوماسي قادر على وضع حدود أمام أي مخطط يحول دماء الإنسان إلى ربح. لن نسمح لأن تُصبح حياة شعبٍ سلعةً في مزاد السياسة. واجبنا أن نحمي الإنسان قبل الأرض، وأن نحمي الذاكرة قبل الخرائط. الحياة والكرامة هما الأساس، والعمل المنظم هو الطريق الوحيد لمنع تكرار الجرائم.
أبو الهول: شكرًا جزيلًا أستاذ عبد المحسن على هذه الإجابات المستفيضة والرؤية الواضحة. هل تود أن تضيف أي خطوات عملية فورية يمكن أن تبدأ بها الصحافة ومؤسسات المجتمع المدني الآن؟
سلامة: نعم. أقترح فورًا تشكيل لجنة تنسيقية عربية — تضم صحفيين استقصائيين، منظمات حقوقية، محامين دوليين — لتجهيز ملف متكامل (وثائق، شهادات، خرائط، شواهد) يُقدّم للعالم قبل أي مفاوضات لإعادة الإعمار. كما يجب إطلاق حملة إعلامية دولية توضح للرأي العام العالمي أن إعادة الإعمار لن تكون قانونية أو أخلاقية إن لم تكن مرتبطة بحق العودة ووجود السكان. هذه الخطوات البسيطة قابلة للتنفيذ فورًا، وتُحدث فرقًا