رجل يملك تجربة ثرية في إصلاح الإعلام

بقلم صموئيل العشاي:

تابعت، مثل كثيرين من أبناء المهنة، خبر تشكيل لجنة جديدة لإصلاح أحوال الإعلام في مصر، ورغم أنني أتمنى من قلبي أن تنجح، فإنني لم أشعر بأي حماس حقيقي. ربما لأنني شاهدت كثيرًا من اللجان قبلها، تعرف طريقها إلى الاجتماعات لا إلى الحلول، تتحدث ببلاغة عن التطوير وإعادة الهيكلة، لكنها لا تمس جوهر الأزمة أبدًا. نسمع الكلام نفسه عن «مواكبة العصر» و«استعادة الثقة» و«إعادة الانضباط»، لكننا لا نرى أثرًا على الأرض. نفس الوجوه، نفس المفردات، نفس الذهنية القديمة التي أرهقت المهنة وأفقدتها روحها.

الإعلام المصري اليوم ليس بحاجة إلى لجان جديدة بقدر ما يحتاج إلى رجال حقيقيين، يفهمون معنى الرسالة ومسؤوليتها. لدينا ثلاث هيئات ضخمة تُدير المشهد: الهيئة الوطنية للصحافة، والهيئة الوطنية للإعلام، والمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام. هيئات تعمل منذ ما يقارب عشر سنوات، تملك صلاحيات واسعة وموارد معتبرة، ومع ذلك لم تقدّم حلًا جذريًا واحدًا لأي من مشكلات الإعلام المتراكمة. لا المحتوى تطوّر، ولا التمويل استقر، ولا ثقة الناس عادت. كل شيء يتحرك ببطء، في دائرة مغلقة، كأننا ندور حول أنفسنا بلا نهاية.

ظهر اسم العقيد أحمد شعبان. لم يكن تقليديًا، لكنه كان يدرك جوهر المهنة، يعرف قيمتها وتأثيرها وخطورتها، ويدرك أن الإعلام الحقيقي لا يُدار من وراء المكاتب، بل من قلب الناس ومن نبض الشارع. كان يملك رؤية عملية واضحة، وإيمانًا عميقًا بأن الإعلام قوة وطنية لا تقل أهمية عن أي مؤسسة في الدولة. لم يكتفِ بالكلام ولا بالشعارات، بل بدأ العمل الفعلي في وقت كانت فيه المؤسسات الإعلامية تنهار الواحدة تلو الأخرى.

قرر أحمد شعبان أن يخوض معركة الإنقاذ، وضخت استثمارات حقيقية لإحياء الإعلام، ليس من باب التجميل أو العلاقات العامة، بل من باب الإيمان بدور الإعلام في بناء الوعي. تحرك بخطوات ثابتة، أعاد التنظيم والتخطيط، منح الفرص لجيل جديد من الشباب، وأعاد بث الحياة في جسد مهنة كادت تموت. كان الرجل يعرف أن الإصلاح لا يكون بقرارات مكتبية، بل بالفعل الميداني، وبالجرأة في اتخاذ القرار، وبالقدرة على تنفيذ الرؤية لا مجرد صياغتها في ورق.

وبينما بدأ المشهد يتحرك نحو الأفضل، وبينما بدأنا نشعر بأن الإعلام قد يستعيد عافيته، حدث ما لم يكن متوقعًا. فجأة، تم إبعاده عن الملف، وكأن أحدهم قرر أن يوقف نبضًا بدأ للتو. رحل أحمد شعبان، توقفت المشاريع، تراجعت المبادرات. بدا واضحًا أن غياب الرجل ترك فراغًا هائلًا، لأن ما كان يفعله لم يكن مجرد إدارة، بل مشروع حياة.

وأنا أقولها بوضوح، من موقع من يعرف معنى أن تنهض المهنة وتسقط: عندما غاب أحمد شعبان، فشل الإعلام. ليس لأنه وحده الحل، ولكن لأنه كان المختلف. كان يرى الإعلام كصوت للدولة وللناس في وقت واحد، لا كمنبر صدى صوت، ولا كواجهة شكلية. كان يفهم قيمة الكلمة، ويقدّر مسؤولية الشاشة، ويؤمن أن الإعلام الوطني القوي هو أول خطوط الدفاع عن وعي هذا الشعب.

اللجان يمكن أن تكتب تقارير مطوّلة وتصدر توصيات أنيقة، لكن التغيير الحقيقي لا يصنعه الورق، بل الرجال الذين يملكون الإيمان والفكر والإرادة. وأحمد شعبان كان من هؤلاء القلائل الذين يجتمع فيهم الإيمان بالوطن مع القدرة على الفعل. كان يعمل بعقل الدولة وقلب المواطن، يعرف كيف يبني لا كيف يتحدث، وكيف يصنع من الرماد شرارة حياة جديدة.

رحل العقيد أحمد شعبان عن المشهد، لكن أثره باقٍ في ذاكرة كل من عرف معنى أن يكون الإعلام حيًا ونابضًا. ترك وراءه درسًا واضحًا: أن المهنة لا تحتاج لجانًا، بل تحتاج رجالًا. تحتاج من يؤمن بأن الكلمة مسؤولية، وأن الصورة رسالة، وأن الإعلام حين يدار بصدق يصبح قوة قادرة على حماية وطن بأكمله

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى