جمال عبد الناصر يكتب: محمود ياسين.. صوت المهابة وضمير الفن المصري

نستذكر اليوم فناناً جمع بين الموهبة والثقافة والالتزام الإنساني، محمود ياسين، الذي صاغ حضوره الفني هويةً خاصة في المسرح والسينما والتلفزيون. في هذه السيرة المختصرة نتلمّس ملامح رجل رمز للفنان الواعي بقيمة ما يقدم وبأثره في الوعي الجمعي.

بدأت مسيرته على خشبة المسرح القومي بعد تخرجه من كلية الحقوق، حيث اختار المسرح كمختبر حقيقي للتمثيل ووظّف جسده وصوته والوجدان في عشرات المسرحيات التي شكّلت الوعي لجيله مثل وطنـي عكا وعودة الغائب وسليمان الحلبي وليلة مصرع جيفارا وغيرها. لم يكن ياسين ممثلاً يؤدي أدواراً محفوظة، بل كان يعيش حالة فكرية كاملة يسعى من خلالها لاكتشاف جوهر الشخصية ومعناها الاجتماعي والإنساني.

توج مساره المسرحي بتوليه إدارة المسرح القومي في أواخر الثمانينيات، فكان ذلك تتويجاً لفنان يرى المسرح بيتاً ومسؤولية. أعاد الروح إلى المؤسسة عبر الانضباط والتجريب والإنتاج النوعي، وأنتج مسرحية أهلا يا بكوات التي جمعت عزت العلايلي وحسين فهمي، والنص كتبته لينين الرملي وأخرجه عصام السيد.

وفي السينما، بدأ أدواراً ثانوية في أفلام مثل الرّجل الذي فقد ظله وشيء من الخوف، قبل أن تنطلق شهرته مع فيلم نحن لا نزرع الشوك أمام شادية فصار واحداً من أبرز نجوم السبعينيات والثمانينيات. صوته العميق ونُطقه الفصيح وملامحه الهادئة جعلت تعابير الشخصيات تتخذ منحى داخلياً عميقاً. لم يكن فتى الشاشة الاعتيادياً بل فناناً يتمتع بحس درامي يفتح أمام المشاهد لحظات تأمل حقيقية. كما كوَّن ثنائيات ناجحة مع فاتن حمامة وشادية وسعاد حسني ونجلاء فتحي ونادية لطفي، ويمكن تذكُّر حضوره في الخيط الرفيع وأفواه وأرانب أمام فاتن حمامة كدليل على شراكته الفنية الحقيقية لا مجرد وجوده بجانبها.

كان ياسين دائماً يعرف كيف يوازن بين رهافة الإحساس وقوة الموقف، وكيف يترك بصمته في المشهد دون أن يطغى على ما أمامه. هذه الثقة العميقة في أدواته وفهمه لفن التمثيل سمحت له بإيصال عمق الشخصيات التي يقدّمها، كما انحاز في كثير من أعماله إلى قضايا الإنسان البسيط وصورة المصري الكفاحي الذي يواجه الواقع الاجتماعي والسياسي وهو يحافظ على إنسانيته. في أعمال مثل الحرافيش والعاطفة والجسد والجلسة سرية يظهر وجه الفنان الذي يضع القيم قبل الشهرة ويتعامل مع السينما كوثيقة اجتماعية لا كسلعة ترفيهية.

على الرغم من تنقّله عبر أدوار متفاوتة، ظل محمود ياسين محافظة على وقاره الفني ومبتعداً عن الابتذال، متمسكاً بصورة الفنان المثقف الذي يحترم جمهوره، وهو ما جعله يحتفظ بمحبته في قلوب الناس حتى غيابه عن الشاشة بسبب المرض.

رحل محمود ياسين، لكن صوته وصورته لا يزالان يملآن الذاكرة ويؤكدان أن الخلود في الفن لا يصنع بالشّهرة وحدها بل بما يتركه من أثر في الوعي. ظل اسمُه واحداً من أعمدة المسرح والسينما والتلفزيون التي ستظل في الذاكرة الفنية المصرية والعربية كمرجع للمسؤولية الإبداعية والإنسانية التي جمع بين الكاريزما والعمق.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى