فى ذكرى ميلاده.. جدران وصور تروي سيرة رفاعة الطهطاوى من قلب بيته الأخير

يُصادف اليوم ذكرى ميلاد أحد رواد النهضة الفكرية في مصر والعالم العربي، رفاعة رافع الطهطاوي، الذي كان له دور حاسم في تحديث التعليم وتوطين المعرفة وتقديم رؤية حضارية لمصر الحديثة.

وُلد الطهطاوي عام 1801 في مدينة طهطا بمحافظة سوهاج من صعيد مصر، ونشأ في بيت علم ودين حفظ فيه القرآن وتعلم مبادئ الفقه والنحو منذ صغره. بعد وفاة والده أكمل تعليمه في طهطا بين أخواله، ثم انتقل إلى الأزهر في سنّ السادسة عشرة ليُدرّس على يد كبار العلماء في الحديث والفقه والتفسير والنحو والصرف والبلاغة.

بدأت رحلته الفكرية الكبرى عندما اختاره شيخُه حسن العطار ليكون أحد ثلاثة أزهريين يصحبون بعثة علمية أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا عام 1826. كان الهدف الرسمي أداء الشعائر فحسب، لكن الطهطاوي تجاوز ذلك، فتعلم اللغة الفرنسية وتفاعل مع المجتمع الفرنسي، متأثرًا بفكر الثورة الفرنسية في المواطنة والحرية والمساواة. بفضل اجتهاده تَمَّت إتمام مهمته رسميًا بتكليفه بالترجمة، فأكمل دراسته في باريس خلال خمس سنوات وهو يحمل رؤيةً تنويريةً عميقة لما يجب أن تكون عليه مصر.

عاد إلى القاهرة عام 1831 وبدأ عمله كمترجم في مدرسة الطب، ثم توسَّعت بصيرته فجعل من أفق التعليم في مصر هدفًا رئيسيًا. أسس عام 1835 مدرسة الترجمة التي أصبحت فيما بعد مدرسة الألسن، وتولى إدارتها وتدريسها. خلال هذه الفترة ترجم العشرات من الكتب من الفرنسية إلى العربية، وأنشأ أقسامًا متخصصة في الترجمة للعلوم الإنسانية والرياضيات والطبيعات، كما أنشأ مدارس لدراسة الاقتصاد والسياسة وأشرف على إصدار جريدة الوقائع المصرية بالعربية.

لم يقتصر دوره على الترجمة فحسب، بل سعى لإحياء التراث المصري القديم ودعا إلى تدريس العلوم باللغة العربية بدلاً من التركية أو اللغات الأجنبية، في خطوة جريئة لتوطين المعرفة في المجتمع المصري. غير أن وصول عباس باشا إلى الحكم شكل مناطةً في طموحه التنويري، حيث أُغلقَت مدرسة الألسن وقلّ نشاط الثقافة، ونُفي الطهطاوي إلى السودان عام 1850. لكن النفـي لم يثنه عن مواصلة مشروعه، فاستغل سنوات المنفى في ترجمة الأدب الفرنسي، ومن أشهر ما ترجم رواية مغامرات تليماك، وأنشأ في السودان مدرسة ابتدائية ضمت نحو أربعين تلميذًا.

بعد وفاة عباس باشا واعتلاء سعيد باشا الحكم، عاد الطهطاوي إلى مصر ليستأنف نشاطه التنويري؛ ففتح مكاتب لمحو الأمية، واهتم بإحياء التراث العربي من خلال طباعة أمهات الكتب في مطبعة بولاق، كما أعاد تنشيط حركة الترجمة. ومع تولّي الخديو إسماعيل الحكم عام 1863 عادت الحياة الثقافية إلى مسارها، فاستعاد الطهطاوي منصب رئيس إدارة الترجمة، وأشرف على مكاتب التعليم، وأسّس أول مجلة ثقافية في تاريخ مصر بعنوان روضة المدارس، ودوّن في التاريخ والتربية والسيرة مؤلفات كثيرة من بينها أنوار توفيق الجليل في أخبار مصر ومباهج الألباب المصرية والمرشد الأمين للبنات والبنين ونهاية الإيجاز في تاريخ ساكن الحجاز والقول السديد في الاجتهاد والتجديد وغيرها.

كان الطهطاوي، خلال مسيرته، أكثر من مجرد ناقل للمعارف؛ فكان مفكرًا يفسرها ويُكملها بما يتواءم مع المجتمع المصري. دعا مبكرًا إلى مفهوم المواطنة القائم على المشاركة الشعبية والمساواة بين المواطنين، وهو ما عبَّر عنه بمفهوم المنافع العمومية، متأثرًا بأفكار الفلاسفة الأوروبيين، وعلى رأسهم جان جاك روسو. كما كان له الفضل في إدخال مصطلحات الدولة الحديثة إلى الفكر المصري، فكان حلقة وصل بين مصر والعالم المتقدم في زمنه.

حظي بتقدير حكّامه، فكانت له هدايا وأراضٍ من محمد علي وإبراهيم باشا وسعيد باشا والخديوي إسماعيل. وعند وفاته عام 1873 بلغت ثروته نحو 1600 فدان، كما وثّق ذلك علي مبارك في كتابه الخطط التوفيقية. وتبقى ذكراه حاضرة في مسقط رأسه بصعيد مصر من خلال أسماء المؤسسات التعليمية والثقافية التي سُميت باسمه، مثل مكتبة رفاعة الطهطاوي في سوهاج، ومدرسة رفاعة الثانوية العسكرية بطهطا، إضافة إلى ميادين وشوارع تحمل اسمه وتماثيله المنتشرة في المدينة، وأبرزها التمثال أمام جامعة سوهاج.

وتظل تراثاته وحضوره حاضرين في الذاكرة الوطنية، حيث تجسدت روحه في الجيل الذي حمل راية العلم والتحديث وشق طريق المعرفة من الأصالة إلى الحداثة، وفتح أبواب الفكر أمام أبناء وطنه ليعبروا بها نحو مستقبل أكثر إشراقًا.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى