كاتيا لطفي لبيب : كان بيغير من عرسان بناته اللي ياخد حتة من قلبه

لم يكن الفنان لطفي لبيب مجرد ممثل مخضرم اشتهر بدوره المتقن وابتسامته الحاضرة في وجدان المشاهدين، بل كان أبًا وإنسانًا بكل ما تحمله الكلمة من عمق ورحمة. خلف الكاميرات وأضواء الشهرة عاش لطفي لبيب حياة بسيطة دافئة، محاطة بثلاث بنات هن عالمه الصغير الذي لم يفارقه يومًا، حتى بعد الرحيل. ابنته الكبرى كاتيا لطفي لبيب تفتح قلبها وتحكي عن أبيها، لا كنجم على الشاشة، بل كأب عاش ليمنح الحب والطمأنينة لكل من حوله.
تقول كاتيا: «إحنا ثلاث بنات، أنا وكارمن وكريستين، وكل واحدة فينا لما بدأت تفكر في الزواج، بابا كان في الأول متغاظ من العريس! متغاظ بمعنى الأب اللي حاسس إن في حد جاي ياخد حتة من قلبه. كان شايف إن كل بنت فينا جزء منه، وكل عريس داخل البيت مش بس بياخد بنت، لكن بياخد حتة من روحه. ومع كده، لما كان يلاقي إن العريس ابن أصول وحنين ويخاف على بنته، كان يبتسم من قلبه ويبارك الجوازة وهو مطمن. أكتر حاجة كانت تهمه إن اللي هيشارك بناته حياتهم يكون راجل محترم، عنده مبدأ وضمير».
تتابع وهي تستعيد ذكريات الدفء العائلي: «دلوقتي أنا وكارمن متجوزين، وكل واحدة فينا عندها ولد وبنت، وكان بابا جد استثنائي بكل معنى الكلمة. كان بيحب أحفاده جدًا، وكان بيقضي معاهم وقت طويل يلعب ويضحك ويحكيلهم عن كواليس شغله، ويقلد شخصياته القديمة بطريقة تخليهم يضحكوا من قلبهم. كانوا متعلقين بيه جدًا لأنه كان بيعاملهم بصدق مش بتصنع، كان يدخل عالمهم الصغير ببساطة زي طفل زيهم، وفي نفس الوقت يعلمهم من غير ما يحسسوهم إنه بيعلم».
وتستطرد كاتيا وهي تبتسم: «ولا واحدة فينا دخلت التمثيل، وده مش علشان هو رفض أو منعنا، بالعكس، بابا كان بيحب الفن ويقدره جدًا، لكن كان شايف إن الموهبة الحقيقية نعمة نادرة. كان بيقول دايمًا إن التمثيل مش مجرد شهرة أو ظهور، ده حالة روحانية لازم اللي يدخلها يكون عنده طاقة وموهبة جبارة. وقالها بصراحة إن الموهبة دي مش عندنا، وده ما زعلناش بالعكس، إحنا كنا فخورين إنه شايف فينا حاجات تانية تستحق التقدير. هو علّمنا إن النجاح مش مرتبط بمجال معين، المهم الإنسان يكون ناجح في مجاله ويعيش بضمير».
وتكمل: «في حياتنا التعليمية والمهنية، بابا عمره ما فرض علينا أي حاجة. كان مؤمن إن الحرية هي الطريق للنضج الحقيقي. كل واحدة فينا اختارت طريقها بإرادتها، وكان هو أول واحد يشجعها. أنا درست هندسة وبقيت مدير مشروعات، كارمن دخلت مجال الكمبيوتر ساينس واشتغلت في دبي، وكريستين درست آداب إنجليزي وبقت مدير تسويق في شركة كبيرة جدًا. هو كان دايمًا بيقول إن الشغل اللي بتحبه هو اللي يخليك تعيش بسلام، وإن النجاح الحقيقي مش باللقب ولا بالفلوس، لكن بالأثر اللي تسيبه في الناس».
وتغوص كاتيا في التفاصيل التي لا يعرفها الجمهور: «بابا كان عنده روتين يومي مقدس ما يتغيرش أبدًا، بعد أذان المغرب لازم كوباية الشاي في البلكونة، ومعاه العصاية والراديو الصغير بتاعه اللي كان يعتبره جزء منه. الراديو ده كان بالنسباله أعز حاجة في الدنيا، لدرجة إنه أخده معاه المستشفى في آخر أيامه. كان يحب يسمع إذاعة الأغاني القديمة، ويفضل يسمع فايزة أحمد ووديع الصافي ومحمد قنديل، وكان يقول إن الأغاني دي فيها روح مش موجودة دلوقتي. لما نشوف الراديو دلوقتي ونشغله، نحس كأن ريحته لسه طالعة منه، كأنه بيكلمنا من بعيد».
وتتابع بصوت يخنقه الحنين: «بابا كان مثقف جدًا، بيقرأ باستمرار، يحب التاريخ والفلسفة، وكان دايمًا يناقشنا في أفكار عميقة. عمره ما اتعامل كأب سلطوي، كان دايمًا يسمعنا ويشاركنا الرأي، وكان يؤمن إن التربية مش أوامر، لكن حوار واحترام متبادل. كنا نحكي له كل حاجة بصراحة، وكان يفرح لما يسمعنا بنعبر عن نفسنا بحرية. في بيته ما كانش في خوف، كان في طمأنينة».
تتوقف كاتيا لحظة، ثم تبتسم: «رغم إنه كان نجم كبير، لكنه كان بسيط جدًا في حياته اليومية. يحب يضحك، يطبخ أحيانًا، يساعد ماما، يصلح حاجات بنفسه، ويقعد في البلكونة يسمع الراديو وهو بيضحك. عمره ما حسسنا إنه فنان مشهور، كان دايمًا بيقول: الشهرة دي اختبار صعب، أهم حاجة الإنسان يفضل إنسان».
ثم يأتي الحديث عن الفقد، فصوتها يخفت ويختنق: «فقدانه وجع ما يتوصفش، الحزن كبير جدًا بس إحنا بنحاول نفضل أقوياء علشان ماما، وعلشانه هو كمان. إحنا متأكدين إنه شايفنا، ومبسوط بينا، لأننا مكملين بنفس القيم اللي علّمنا إياها. هو ما غابش، هو بس راحل بجسده، لكن روحه لسه حوالينا في كل تفصيلة: في كرسيه اللي كان بيقعد عليه، في كوباية الشاي اللي كانت دايمًا جنبه، في الراديو اللي بقى صوته التاني، وفي ضحكته اللي بنسمعها جوانا حتى وإحنا ساكتين».
وتختم كاتيا حديثها بكلمات تخرج من عمق القلب: «بابا علّمنا إن الفنان الحقيقي مش اللي يمثل كويس، لكن اللي يعيش بصدق ويحب الناس. علمنا إن الطيبة مش ضعف، وإن الكلمة الحلوة ممكن تغيّر حياة حد. فضل طول عمره إنسان بسيط، راضي، ومتصالح مع نفسه، وعشان كده هيفضل حاضر بينا، مش كفنان بس، لكن كرمز للأب المصري الجدع، الطيب، اللي عاش ومات وهو بيزرع الخير».
لطفي لبيب واحد من أولئك الفنانين الذين لا يمكن أن تختزلهم أدوارهم، لأن ما تركه من أثر تجاوز الشاشة والمسرح إلى قلوب الناس. لم يكن مجرد ممثل يجسد الشخصيات، بل كان رجلًا يحمل في داخله حنان الأب المصري، وهدوء الفيلسوف، ووعي المثقف الذي يزن كلماته قبل أن ينطق بها. كان وجهه البشوش مرآة لصدق داخلي نادر، وصوته الدافئ يحمل دفء الوطن في كل مشهد.
عاش لطفي لبيب حياته في صمت كريم، لا يطلب مجدًا ولا يسعى إلى ضوء، وإنما إلى أثر يليق بالإنسان الذي يرى في الفن رسالة، لا سلعة. أحب وطنه في أعماله، واحترم جمهوره، وأعطى الفن أكثر مما أخذ. واليوم، حين تتحدث ابنته عنه بكل هذا الحب، يدرك الجميع أن ما تركه من إرث حقيقي ليس فقط في السينما والمسرح، بل في قلوب بناته وأحفاده الذين ورثوا عنه البساطة والإخلاص والكرامة.
لطفي لبيب لم يرحل، لأن الإنسان الذي أحب بصدق، وظل وفيًّا لقيمه، لا يموت. بل يظل صوته حيًّا في الراديو القديم، وفي ذاكرة محبيه، وفي ضحكة أحفاده التي تشبهه. لقد غاب الجسد، لكن بقيت الروح التي علّمتنا أن الإنسان أهم من الشهرة، وأن الفن لا يعيش إلا إذا كان نابعًا من القلب.