رؤوف ميخائيل عبقرية مصرية غيرت موازين الحرب الاستنزاف

قصة العالم الدكتور رؤوف شاكر ميخائيل… من قلب المعامل خرج السلاح الذي أنقذ سماء مصر

في أواخر ستينيات القرن الماضي، كانت مصر تعيش واحدة من أدق وأصعب مراحل تاريخها الحديث. فبعد نكسة يونيو 1967، كان الوطن كله ينهض من تحت الرماد ليعيد بناء نفسه، جيشًا وعلمًا واقتصادًا وإرادة. بدأت حرب الاستنزاف، وهي حرب الصبر والإصرار والعزيمة، التي خاضتها القوات المسلحة المصرية لتستعيد كرامة الوطن وتعيد التوازن في مواجهة العدو الإسرائيلي الذي ظن أنه استطاع أن يكسر إرادة المصريين إلى الأبد.

في تلك السنوات، كانت السماء هي ميدان المعركة الحقيقي، وكان الطيران الإسرائيلي يعتمد بصورة شبه مطلقة على الهجمات الجوية المفاجئة لقصف المطارات المصرية وتدمير ممراتها وشل قدرتها على العمل. فكانت كل قاعدة جوية مصرية هدفًا رئيسيًا للعدو، وكل ضربة ناجحة لممر طائرات تعني توقفه الكامل ليومين أو أكثر، وهو ما كان يمنح إسرائيل تفوقًا جويًا خطيرًا.

كانت المشكلة أن إصلاح الممرات المتضررة كان يستغرق ما يقارب ثمانٍ وأربعين ساعة كاملة، لأن خلطة الأسمنت السريع المتوفرة في مصر حينها تحتاج إلى يومين لتجف تمامًا وتتحمل الضغط الهائل لعجلات الطائرات عند الإقلاع والهبوط. وهكذا، كان سلاح الجو المصري يجد نفسه عاجزًا عن التحرك بعد كل قصف، منتظرًا أن تجف الأرض قبل أن تعود الحياة إلى المدارج.

هذه الأزمة كانت كابوسًا حقيقيًا يؤرق القيادة المصرية. فالمعارك لا تنتظر، والوقت في الحرب يعني الدم والأرض والسيادة. اجتمع القادة العسكريون يبحثون عن حل، ولم يكن أمامهم سوى اللجوء إلى العلماء المصريين، مؤمنين بأن العقل المصري قادر على تحقيق ما عجزت عنه الإمكانيات المادية.

وهكذا تم استدعاء عدد من العلماء البارزين من الجامعات ومراكز الأبحاث، وعُقدت اجتماعات على أعلى مستوى من السرية، عُرضت خلالها المشكلة بتفاصيلها، وطُلب من العلماء التوصل إلى حل مصري خالص دون الاستعانة بخبرات أو مواد أجنبية، حفاظًا على سرية المجهود الحربي. كانت الأوامر واضحة: المطلوب خلطة إسمنت تجف بسرعة وتتحمل ضغط الطائرات الثقيلة، وبأي ثمن.

من بين هؤلاء العلماء برز اسم العالم الشاب الدكتور رؤوف شاكر ميخائيل، مدرس الكيمياء بكلية العلوم – جامعة عين شمس، الذي قبل التحدي بروح العالم الوطني المؤمن بأن المعرفة يمكن أن تكون سلاحًا في يد الوطن. كانت مهمته محفوفة بالصعاب، إذ طُلب منه أن يستخدم معامل الجامعة لإجراء أبحاثه دون أن يعلم أحد من زملائه أو العاملين بالجامعة طبيعة ما يقوم به. كان عليه أن يتصرف وكأن شيئًا لم يتغير في روتينه اليومي، حتى لا يثير الشبهات أو الفضول حول ما يجري في معمله.

كانت السرية المطلقة شرطًا أساسيًا، حتى إن الدكتور رؤوف لم يكن بإمكانه أن يخبر أسرته بما يقوم به. كان يقضي الليالي داخل المعمل بعد انتهاء اليوم الدراسي، يجرب ويختبر ويخلط المواد الكيماوية في صمت، بينما يتساءل أهله عن سبب بقائه في الجامعة حتى منتصف الليل رغم عدم وجود محاضرات مسائية. عاش العالم الشاب أيامًا قاسية من التوتر والإرهاق، لكنه كان يدرك أن ما يقوم به ليس مجرد تجربة علمية، بل مهمة وطنية مصيرية قد تغيّر وجه الحرب.

وبعد أسابيع طويلة من العمل المضني والتجارب الدقيقة، تمكن بعقله المبدع وإصراره العظيم من اختراع تركيبة جديدة من الأسمنت تجف خلال أربع ساعات فقط، وتتحمل ضغوطًا عالية جدًا تسمح بإقلاع وهبوط الطائرات الثقيلة دون أن تتشقق أو تنهار. كانت النتيجة مذهلة بكل المقاييس، وقد بدت كأنها معجزة علمية مصرية خالصة.

تم إبلاغ القيادة العسكرية بالنتائج فورًا، وأُمر بتنفيذ تجربة ميدانية حقيقية في أحد المطارات تحت إشراف متخصصين من سلاح المهندسين. تمت التجربة في سرية تامة، ونجحت من أول مرة نجاحًا مبهرًا. الطائرة أقلعت وهبطت بأمان تام بعد ساعات قليلة من صب الخلطة الجديدة، لتتحول لحظة الاختبار إلى لحظة فخر وانتصار علمي لا يُنسى.

على الفور، أمرت القيادة العامة بتوفير كل الإمكانيات اللازمة لإنتاج كميات كبيرة من هذه الخلطة، وتم توزيعها على جميع المطارات المصرية لتكون جاهزة في أي وقت عند تعرض أي ممر للقصف. ومنذ ذلك اليوم تغيّر المشهد تمامًا، فلم تعد الضربات الجوية الإسرائيلية قادرة على تعطيل الطيران المصري.

بدأ العدو يلاحظ ظاهرة غريبة أربكته تمامًا: المطارات التي كانت تُقصف صباحًا كانت تعود إلى العمل بعد ساعات قليلة، والطائرات المصرية تعود للتحليق وكأن شيئًا لم يحدث. حاولت إسرائيل ومعها الولايات المتحدة فهم سر هذا الإنجاز، لكن دون جدوى. كانت المخابرات ترصد وتراقب، ومع ذلك لم تستطع أن تكتشف السر وراء تلك الخلطة العجيبة التي أعادت للمطارات المصرية قدرتها على الحياة خلال ساعات.

وفي عام 1968، قرر الرئيس جمال عبد الناصر تكريم هذا العالم العبقري الذي لم يحمل سلاحًا، لكنه صنع سلاحًا من نوع آخر. منحه جائزة الدولة التشجيعية في العلوم والكيمياء، وكرّمه بنفسه في احتفال عيد العلم، وسط دهشة الحاضرين الذين لم يعرفوا سر التكريم. ظل السر محفوظًا داخل الدوائر العليا للدولة، إلى أن كُشف النقاب عن القصة لاحقًا، فعرف المصريون أن وراء هذا الإنجاز عقلاً مصريًا مخلصًا لم يبحث عن شهرة ولا مجد، بل عن نصر يليق بوطنه.

لقد كانت قصة الدكتور رؤوف شاكر ميخائيل تجسيدًا رائعًا لحقيقة أن العلم هو السلاح الأول للأمم، وأن النصر لا يصنع فقط في ميادين القتال، بل في المعامل والمختبرات وبين أوراق الباحثين. كانت تجربته درسًا خالدًا في الوطنية والالتزام والعطاء الصامت، ورسالة تؤكد أن كل عقل مصري قادر على أن يصنع الفرق إذا ما أُعطي الفرصة وثقة الوطن.

وهكذا كتبت مصر فصلًا جديدًا في سجل بطولاتها، ليس بالسلاح وحده، بل بالعقل والفكر والإبداع.

إنها مصر التي كلما أرادت أن تنهض، وجدت بين أبنائها من يحمل شعلة النور ليبدد ظلام الهزيمة.

سلام سلاح للعالم المصري العبقري الدكتور رؤوف شاكر ميخائيل، هرم من أهرامات المحروسة، ورمز خالد من رموز العلم الوطني والإخلاص في خدمة الوطن.

حفظ الله جيش مصر، وحفظ الله علمائها، وحفظ الله المحروسة دائمًا وأبدًا.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى