وكيل مباحث أمن الدولة يكشف في حوار خاص: الهندسة الاستخباراتية في حكاية الجولاني

في زمنٍ تُعاد فيه الوجوه وتُصنَع فيه الشرعيات، تبدو قصة أبو محمد الجولاني – أحمد الشرع واحدة من أكثر الحكايات غموضًا في المشهد العربي الحديث.

من مقاتل ميداني في صفوف القاعدة إلى “رئيس انتقالي لسوريا”، رحلة لا يمكن قراءتها إلا من زاويةٍ تتجاوز الشخص لتصل إلى “الهندسة الاستخباراتية” الكبرى التي تُعيد تشكيل المنطقة.

في هذا الحوار، يتحدث اللواء عبد الحميد خيرت، وكيل جهاز مباحث أمن الدولة الأسبق والمتخصص في شؤون الجماعات المسلحة، ليفكّك خيوط هذه الظاهرة ويكشف أبعادها الخفية.

س: من هو أبو محمد الجولاني؟ وكيف بدأت قصته؟

ج: الجولاني ليس مجرد مقاتلٍ صعد من تحت الرماد، بل هو نتاج تفاعل بين ظروف مضطربة وشخصية طموحة. وُلد في بيئةٍ شهدت هشاشة مؤسسات الدولة وانهيار منظومة العدالة والاقتصاد، فوجد نفسه أمام طريقين: العدم أو السلاح. اختار الثاني، وسافر إلى العراق لينضم إلى تنظيم القاعدة، فاكتسب خبرة ميدانية وشبكات نفوذ داخل التيار الجهادي.

لكن تحوله الحقيقي بدأ مع الفراغ السوري بعد 2011؛ حيث أدرك أن السلطة في زمن الفوضى تُنتزع لا تُمنح. فبنى “نواة سلطة” داخل جبهة النصرة، جمعت بين السلاح والإدارة، بين العقيدة والسياسة.

س: هل كان مجرد مقاتل متطرف، أم مشروعًا استخباراتيًا أكبر؟

ج: لا، هو أبعد من مجرد شخص. الجولاني تحوّل إلى “أداة مركّبة” ضمن لعبة النفوذ. القوى الإقليمية والدولية تحتاج دائمًا إلى فاعلين محليين يمكنهم الإمساك بالميدان وضبط الجماعات الأصغر. لذلك، تمت إعادة توظيفه تدريجيًا؛ تارةً كخصم، وتارةً كوسيط، ثم لاحقًا كـ“واجهة”.

حين ترى كيف تغيّرت تسميات تنظيمه بتزامنٍ مع التحولات الإقليمية، تفهم أن الأمر لم يكن عفويًا، بل جزءًا من سيناريو مدروس لإعادة تدوير رموزٍ مسلحة وتحويلها إلى أدوات نفوذ تحت غطاء سياسي جديد.

س: كيف انتقل من زعيم فصيل إرهابي إلى رئيس انتقالي لسوريا؟

ج: لا أحد ينتقل من الكهوف إلى القصر في يومٍ وليلة. ما حدث هو عملية ثلاثية الأبعاد:

  • تكتيكيًا: فكّ ارتباطه بالقاعدة وبدّل اسم التنظيم مرارًا لتخفيف الحظر وفتح نوافذ اتصال غير مباشرة.
  • سياسيًا: أسّس إدارات محلية ومحاكم ميدانية ليقدّم نفسه كقوة “منظمة”، لا ميليشيا.
  • دبلوماسيًا: جرت تفاهمات إقليمية معقدة، شاركت فيها أطراف عربية وغربية، رأت فيه “حلاً محليًا” يضمن الاستقرار شمال سوريا ويحدّ من تمدد إيران وروسيا.

الإعلان عن “رئاسة انتقالية” لم يكن مفاجئًا لمن تابع خطوط هذه التفاهمات، بل كان نقطة تتويج لمسار محسوب بدقة.

س: لكن كيف تتعامل واشنطن مع رجل كانت قد رصدت 10 ملايين دولار للقبض عليه؟

ج: السياسة الأمريكية لا تعرف الحرج، بل تعرف “الوظيفة”. تصنيف الإرهاب هو أداة ضغط وليست حكمًا أبديًا. يمكن رفعه أو تجميده مؤقتًا إذا اقتضت المصلحة. في مثل هذه الحالات، تُدار الأمور خلف الستار عبر تفاهمات استخباراتية: تبادل معلومات، تعهدات أمنية، أو حتى خدمات في ملفات أخرى.

ببساطة، ما يبدو أخلاقيًا “مستحيلًا” يصبح سياسيًا “ممكنًا” عندما تخدم النتائج مصالح الأمن القومي الأمريكي أو الإسرائيلي.

س: وما المكاسب من دعم شخصية مثل الجولاني؟

ج: المكسب الأول هو التحكم في النار بالنار. من يفهم الجماعات المتشددة يمكنه احتواؤها. الغرب يرى في الجولاني رجلاً يعرف لغة الميدان، ويملك شبكة نفوذ يصعب اختراقها من الخارج.

المكسب الثاني استقرار مناطقي منخفض الكلفة: بدلًا من إرسال جيوش، يدعمون “قائدًا محليًا” لإدارة المنطقة بالنيابة.

أما المكسب الثالث فهو ورقة التفاوض: رجل كهذا يمكن استخدامه لتجميد جبهات أو الضغط في ملفات أكبر — من الحدود إلى النفوذ الإيراني.

لكن الوجه الآخر للعملة خطير؛ لأنه يُكرّس سياسة المكيافيلية العارية: استبدال العدالة بالاستقرار، والمبادئ بالمصالح.

س: هل ما يجري جزء من مشروع “الشرق الأوسط الجديد”؟

ج: نعم، ولكن بنسخته الواقعية لا النظرية. المقصود ليس خطة مكتوبة بقدر ما هو منهج في إدارة الخرائط: إعادة توزيع النفوذ عبر وكلاء محليين بدل السيطرة المباشرة.

في هذا الإطار، الجولاني مجرد “بند” ضمن معادلة أكبر، حيث تُعاد صياغة الحدود والنفوذ وفق من يخدم التوازنات الجديدة. الشرق الأوسط يُعاد هندسته فعلاً، لكن بأدوات بشرية مألوفة تم تلميعها.

س: وماذا عن العدالة لضحايا الفصائل التي قادها؟

ج: هذه هي الفاتورة المنسية. العدالة الانتقالية تُستبدل بالصفقات السياسية. لا لجان تحقيق، لا محاكمات، لا جبر ضرر. النتيجة؟ ذاكرة مجروحة ستظل تنزف في وجدان السوريين لسنوات.

الاستقرار بلا عدالة هو مجرد هدنة فوق بركان، وما لم يُحاسب المسؤولون عن الجرائم، فلن تكون المصالحة إلا واجهة زائفة.

س: لو كان تحوّله حقيقيًا، لماذا لم يُرفع عنه التصنيف الإرهابي رسميًا؟

ج: لأن بقاءه في “المنطقة الرمادية” مفيد للجميع. الغرب يمكنه التعامل معه كحاكم بحكم الأمر الواقع، وفي الوقت نفسه يحتفظ بورقة “الإرهاب” ضده متى شاء.

رفع التصنيف رسميًا يعني اعترافًا قانونيًا وتمويلًا مشروعًا، وهذا لا تريده واشنطن الآن. إبقاؤه معلقًا يجعل منه رهينة السياسة الدولية، لا رئيسًا كاملاً ولا إرهابيًا منبوذًا.

س: هل هذا تحول حقيقي أم تمويه استخباراتي؟

ج: يمكن وصفه بأنه تحوّل مُدار؛ فيه تمويه بقدر ما فيه واقعية. الجولاني يتغير شكلاً ليبقى مضمونًا. لا يمكن لحركة متجذرة في الأيديولوجيا أن تتحول فجأة إلى مشروع حكم مدني دون تفكيك بنيتها الفكرية أولًا.

ما نراه أقرب إلى “تبديل جلد” منه إلى “تبدّل جوهر”.

س: هناك من يقول إنها أكبر كذبة استخباراتية في القرن. ما رأيك؟

ج: ليست كذبة، بل خطة بارعة التنفيذ. أجهزة المخابرات تعرف كيف تحوّل الأعداء إلى أدوات، وكيف تعيد تسويق الفوضى على أنها حلّ.

القصة في جوهرها درس في فن إدارة الفوضى، حيث لا يُهزم الخصم، بل يُعاد تشكيله ليتحوّل إلى خادم لمصالح من حاربه بالأمس.

س: ما الذي تكشفه هذه القصة عن منطق السياسة في الشرق الأوسط؟

ج: أنها سياسة بلا يقين. لا صداقات دائمة ولا عداوات مطلقة، بل شبكة من التحالفات القابلة للتبدّل عند أول تقاطع مصالح.

في هذه الرقعة من العالم، الهندسة السياسية أهم من العدالة، والخرائط تُرسم بالأقلام الدبلوماسية لا بالدماء فقط.

س: كلمة ختامية؟

ج: حكاية الجولاني تذكّرنا أن الحقيقة في الشرق الأوسط دائمًا رمادية. لا الأبطال أبطال بالكامل، ولا الأشرار أشرار حتى النهاية.

في زمن تدوير الرموز، يجب أن نحذر من تدوير الأكاذيب نفسها. فالمصالح قد تُعيد صناعة السلطة، لكن لا ينبغي أن تُعيد صناعة الغفران بلا حساب

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى