إبراهيم طه يكتب: بعد المصالح.. التشابك الإنساني مرحلة دبلوماسية جديدة
لم تعد خريطة العالم تُقرأ بلغة القوة الصلبة وحدها، حيث كانت الخطابات في زمن الحرب الباردة، على سبيل المثال، أشبه ببياناتٍ عسكريةٍ محكمة، تتبارى في إطلاق التهديدات وترسيم حدود النفوذ.
اليوم، وفي ظل عالمٍ يزداد تشابكًا، تهب عواصف مشتركة لا تميّز بين حدود دولةٍ وأخرى: جائحةٌ عالمية تذكّرنا بهشاشتنا المشتركة، أزمةٌ مناخيةٌ تهدّد مستقبل الكوكب برمّته، وموجاتُ نزوحٍ تضع الإنسانية أمام محكّ الاختبار.
هذا القدر المشترك والمصير الواحد لم يعد شاعريةً لغوية، بل أصبح واقعًا فرض تحوّلًا جوهريًا في لغة الخطاب السياسي نفسه، من مجرّد تبادلٍ للمصالح إلى فضاءٍ أرحب للتأثير الإنساني والاتصالي، ممّا يعيد تعريف مصادر القوة والنفوذ في النظام الدولي.
من واقعية المصالح إلى ضرورات التعاون الإنساني
لقرونٍ طويلة، هيمنت «النظرية الواقعية» على مسرح العلاقات الدولية، مُختزلةً السياسة في صراع إراداتٍ وقائمةٍ لا نهائيةٍ من المساومات، حيث كانت اللغة أداةً للمناورة والتفاوض أو الترهيب.
لكن طبيعة التحديات في القرن الحادي والعشرين، بتعقيدها وعُبورها للحدود، فرضت منطقًا جديدًا.
ونتذكر هنا مثالًا حيًا من خلال جائحة «كوفيد-19»، إذ شاهدنا كيف اضطرت الدول، رغم تنافسها الاستراتيجي، إلى تبنّي خطابٍ تعاونيٍّ قائمٍ على المشاركة العلمية والتضامن الإنساني.
لم يكن الحديث عن إرسال المساعدات الطبية أو تقاسم اللقاحات عملًا خيريًا فحسب، بل كان استجابةً عمليةً لواقعٍ مفاده أن أمن دولةٍ ما لم يعد منعزلًا عن أمن جيرانها، ممّا حوّل الخطاب من أداة صراعٍ إلى جسرٍ للتعامل مع مصيرٍ مشترك.
مقوّمات الخطاب الإنساني الاتصالي الفعّال
لكن ليس كل خطابٍ إنسانيٍّ يكون مؤثرًا؛ ففعالية هذا الخطاب تستند إلى مقوّماتٍ عدّة:
- أولها المصداقية، أي تطابق الأفعال مع الأقوال، فالشعوب أصبحت أكثر قدرةً على تمييز التناقض بين الخطاب والممارسة.
- أما ثانيها، فالتعاطف الحقيقي والاعتراف بالمعاناة الإنسانية بصرف النظر عن الانتماءات.
- وثالثها، الإقرار بالمسؤولية المشتركة تجاه القضايا العالمية، ما يمنح الخطاب سمة الشراكة بدل الوصاية.
- وأخيرًا، استخدام لغةٍ عالميةٍ بسيطةٍ ومباشرةٍ تخاطب القلوب والعقول معًا، متجاوزةً المصطلحات البيروقراطية الجافة.
ولعل الدور المحوري لوسائل التواصل الاجتماعي والإعلام قد ضاعف من أهمية هذه المقومات، إذ لم يعد الخطاب موجّهًا للحكومات فحسب، بل للرأي العام العالمي الذي أصبح قوةً حقيقيةً تُحاسب وتؤثر في السمعة الدولية للدول، ممّا يجعل «القوة الناعمة» المبنية على الجاذبية الأخلاقية والثقافية عنصرًا لا يقل أهميةً عن القوة الاقتصادية والعسكرية.
دراسات حالة: التجسيد العملي للبعد الإنساني
خطاب البابا فرانسيس:
يمثّل خطاب رئيس الفاتيكان الراحل البابا فرانسيس نموذجًا فريدًا للدبلوماسية الروحية والإنسانية، إذ كانت خطاباته تتجاوز السياسة التقليدية لتبني على قيم العدالة الاجتماعية والسلام.
إنه لا يتحدث بلغة المصالح الوطنية الضيقة، بل بلغة القيم العالمية المشتركة، ممّا منحه قدرةً فائقةً على استمالة الاحترام عبر الثقافات والمذاهب المختلفة.
الدبلوماسية الإنسانية للنرويج وسويسرا:
بنت النرويج وسويسرا سمعتهما الدولية ليس فقط على ثرائهما، بل على دورهما كوسيطٍ نزيهٍ ومانحٍ للمساعدات الإنسانية في مناطق النزاع.
ومن خلال التركيز على مساحات الحياد وتقديم المساعدة الإنسانية، تخلقان مساحاتٍ من الثقة تمهّد الطريق للحوارات السياسية الصعبة، معزّزتين بذلك مكانتهما وأمنهما على المدى الطويل.
الخطاب الداعي للعدالة المناخية:
لم تعد مفاوضات المناخ مجرّد جلساتٍ لتقسيم الأعباء الاقتصادية، بل تحوّلت إلى ساحةٍ لأخلاقياتٍ عالمية، حيث يُطرَح سؤال المسؤولية التاريخية وحقوق الأجيال القادمة.
إن خطاب الدول الجُزرية الصغيرة المهددة بالغرق، على سبيل المثال، هو خطابٌ وجوديٌّ إنسانيٌّ بالدرجة الأولى، يجبر العالم على مواجهة العواقب الأخلاقية لتجاهله البيئي.
الدبلوماسية المصرية في أزمة غزة:
تتبنّى مصر في تعاملها مع أزمة غزة منهجًا دبلوماسيًا متكاملًا يجسّد رؤيةً استراتيجيةً واضحة، فهي تدمج بحرفيةٍ عاليةٍ بين حسابات الأمن القومي المصري والإسهام في تحقيق الاستقرار الإقليمي.
ولا تقف هذه الدبلوماسية عند حدود الوساطة النشطة لاحتواء التصعيد فحسب، بل تمتد إلى قيادة جهودٍ إغاثيةٍ إنسانيةٍ ملموسة عبر معبر رفح، الذي أصبح شريان حياةٍ تحت إشرافٍ مصريٍّ مباشر.
هذا النهج المتوازن يستند إلى إدراكٍ عميقٍ للتداخل الطبيعي بين الأمن القومي المصري والأوضاع في محيطه الجيوسياسي، كما يعكس حكمة القيادة السياسية في تحويل التحديات إلى فرصٍ لتعزيز الدور الإقليمي والدولي لمصر.
ومن هذا المنظور، فإن النموذج المصري يقدّم صورةً راقيةً للدبلوماسية التي توفّق ببراعةٍ بين متطلبات السيادة الوطنية ومسؤوليات القيادة الإقليمية والأبعاد الإنسانية للأزمات.
التحديات وحدود التحول
رغم هذا التحول الواضح، يجب علينا قراءته بموضوعيةٍ ونقدٍ.
فالبعد الإنساني في الخطاب السياسي ليس مناعةً ضد النفاق؛ إذ قد يُستخدم أحيانًا كأداةٍ لـ«تلميع الصورة» أو «غسل السمعة الدولية» لبعض الدول، ليقدَّم خطابٌ إنسانيٌّ برّاق لتبرير سياساتٍ توسعية أو لإدارة انطباعات الرأي العام دون تغييرٍ حقيقيٍّ في السلوك على الأرض.
وتظل المصالح الوطنية هي الحاكم الأساسي في النهاية للقرارات السياسية، لكنّ الفن الدبلوماسي الحديث أصبح يكمن في تزيين المصالح بلغة القيم الإنسانية المشتركة، وجعلها متوافقةً معها، أو على الأقل مُقدَّمةً في إطارٍ أخلاقيٍّ مقبول.
لماذا تخشى الدول الكبرى «دبلوماسية القلب»؟
نصل هنا إلى محطةٍ مهمة من خلال طرح سؤالٍ بديهي: لماذا تخشى الدول الكبرى «دبلوماسية القلب»؟
الإجابة ببساطة: لأنها تُهدّد أركان لعبة القوة التقليدية.
فـ«دبلوماسية القلب» التي تضع القيم الإنسانية في المقدمة لا تُقاس بمعادلات الترهيب والمساومات، بل تنتزع الشرعية من لغة القوة المفرطة لتعيدها إلى قوة اللغة الأخلاقية.
نعم، في عالمٍ أصبحت فيه السمعة الدولية سلعةً ثمينة، يصبح هذا النمط من الدبلوماسية تهديدًا وجوديًا للنماذج القائمة على الهيمنة، لأنه ببساطة يغيّر قواعد اللعبة من تحت أقدامها.
فعندما تتحول العدالة المناخية وقضايا اللاجئين من مجرّد نقاطٍ للتفاوض إلى قضايا مركزية، تجد الدول التقليدية نفسها في موقفٍ دفاعي أمام خطابٍ جديدٍ تتهاوى أمامه حسابات المصلحة الضيقة.
الخاتمة: الدبلوماسية بين العقل والقلب
يا سادة،
إن معادلة القوة في النظام العالمي الآخذ في التطور لم تعد محصورة في الحسابات المادية البحتة.
فالقدرة على صياغة خطابٍ سياسيٍّ مقنع، قائمٍ على المصداقية، متشبعٍ بالقيم، وقادرٍ على استمالة العقول والقلوب، أصبحت أحد مقومات النفوذ الاستراتيجي.
ويبقى السؤال المطروح بإلحاح: هل تمتلك الدبلوماسية التقليدية، بأدواتها المحافظة، المرونة الكافية لمواكبة هذا التحول الاتصالي الجديد؟
يُؤدي تحليل المعطيات الراهنة إلى استنتاجٍ حتمي:
لقد أصبح التوجه نحو نموذجٍ دبلوماسيٍّ مبتكر ليس خيارًا، بل ضرورةً استراتيجيةً ملحّة.
هذا النموذج الجديد — الذي أُقترِح — يقوم على إحداث تحوّلٍ جوهريٍّ، برفع «القدرة على الحوار الإنساني الفعّال» من مرتبة مهارةٍ ثانويةٍ قابلةٍ للاستغناء، إلى منزلة المورد الاستراتيجي الأعلى قيمةً والأندر وجودًا في المضمار الدولي المعاص