صموئيل العشاي يكتب: الكنيست وخطة السيادة على الضفة… خطر يغيّر قواعد اللعبة بالكامل

في خضمّ صخب الحرب في غزة وتشتّت انتباه العالم، مرّ خبر قد يبدو للبعض عادياً، لكنه في جوهره يحمل أخطر ما يمكن أن يحدث على الأرض الفلسطينية منذ عام 1967. الكنيست الإسرائيلي وافق في القراءة التمهيدية على مشروع قانون لتطبيق السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية. قد يراه البعض مجرد إجراء شكلي، فالمشروع لا يزال بحاجة إلى ثلاث قراءات أخرى ليصبح قانوناً نافذاً، لكن من يعرف عقل صانع القرار الإسرائيلي يدرك تماماً أن القراءة الأولى هي إعلان النوايا، وأن الطريق نحو الضم الفعلي بدأ فعلاً، وإن كان بثوب قانوني هذه المرة.

المشروع الذي جرى تمريره يقضي بأن تخضع المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية مباشرة للقوانين المدنية الإسرائيلية بدلاً من الأوامر العسكرية التي تحكمها منذ أكثر من نصف قرن. وبموجب هذا التغيير، تنتقل إدارة هذه المناطق تدريجياً من سلطة الجيش إلى الوزارات المدنية الإسرائيلية مثل الداخلية والإسكان والتعليم. هذا التحول الإداري ليس بسيطاً أو رمزياً، بل يعني في الواقع نقل الولاية القانونية الكاملة من وضع الاحتلال إلى وضع السيادة، أي أن إسرائيل تعلن – دون أن تصرّح – أن الضفة الغربية لم تعد “أرضاً محتلة” بل “جزءاً من الدولة”.

النتيجة المباشرة لذلك هي تحويل المستوطنين إلى مواطنين داخل نظام مدني متكامل، وعزل الفلسطينيين في جزر إدارية محاصرة تحت إشراف الجيش. بهذا الشكل، يتم تفريغ مفهوم الاحتلال من معناه القانوني والسياسي، ويجري تحويله إلى واقع دائم تُديره مؤسسات الدولة الإسرائيلية كأي منطقة داخل حدودها المعترف بها.

من الناحية القانونية، هذه الخطوة تمثل تحدياً سافراً للقانون الدولي الذي يعتبر الضفة الغربية أرضاً محتلة تخضع لاتفاقية جنيف الرابعة، ويمنع أي سلطة احتلال من نقل سكانها إليها. كما أنها انتهاك مباشر لاتفاقيات أوسلو، التي تنصّ على أن قضايا الوضع النهائي – مثل الحدود والقدس والمستوطنات – يجب أن تُحسم بالتفاوض لا بالإملاء. سياسياً، هذا القانون يعني نهاية فعلية لحل الدولتين الذي شكّل لعقود أساس الموقف الدولي تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. فكيف يمكن الحديث عن دولة فلسطينية مستقلة بينما تُخضع إسرائيل الضفة لقوانينها الداخلية وتحوّل المستوطنات إلى مدن معترف بها؟ إن ما يجري هو شرعنة لمصادرة الأراضي الفلسطينية، وإلغاء أي احتمال لقيام كيان فلسطيني متصل جغرافياً أو سياسياً، بل إن المشروع يمهد عملياً لتفكيك السلطة الفلسطينية نفسها، عبر سحب اختصاصاتها تدريجياً ونقلها إلى الإدارات الإسرائيلية المدنية، بحيث تصبح السلطة مجرد إدارة محلية محدودة الصلاحيات لا أكثر.

الخطوة لا يمكن فصلها عن طبيعة الحكومة الإسرائيلية الحالية التي يقودها بنيامين نتنياهو، ويشارك فيها إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، وهما من أبرز رموز اليمين الديني القومي المتطرف. هذه الحكومة لا ترى في “حل الدولتين” سوى خطر وجودي على فكرة “أرض إسرائيل الكبرى”، ولا تؤمن بأي مسار سياسي قائم على التنازل أو التفاوض. منذ توليها الحكم، تبنت هذه الحكومة أوسع خطة استيطانية منذ عقود، مع ميزانيات ضخمة لتوسيع المستوطنات وبناء بنى تحتية جديدة في عمق الضفة الغربية. كما دفعت باتجاه نقل الصلاحيات من الجيش إلى الوزارات المدنية لتكريس واقع “الضم الزاحف” دون إعلان رسمي. اليوم، ومع تصاعد التوتر في غزة، يرى اليمين الإسرائيلي أن اللحظة مواتية تماماً لفرض واقع جديد بينما أنظار العالم منشغلة بالحرب ومآسيها. هكذا تتحول سياسة الأمر الواقع إلى قانون دائم، ويتم تحويل الاحتلال إلى سيادة بحكم التشريع.

من خلال متابعتي الطويلة لطبيعة التفاوض الإسرائيلي، أرى أن ما يجري ليس مجرد تصعيد داخلي، بل جزء من صفقة سياسية أوسع مع إدارة ترامب. الإسرائيليون يدركون أن ترامب يبحث عن إنجاز سياسي في الشرق الأوسط، وبخاصة في ملف غزة، ليقدمه كرؤية سلام قبل الانتخابات الأمريكية. ومن هنا، يحاول نتنياهو وطاقمه استخدام مشروع السيادة على الضفة كورقة تفاوض أو “كارت trade-in”: يقبلون ببعض الشروط الأمريكية الخاصة بخطة “غزة الجديدة”، مقابل الحصول على اعتراف أمريكي ضمني أو صمت فعلي تجاه ضم الضفة الغربية. هذه المعادلة – في تقديري – هي جوهر المشهد الحالي. إسرائيل تلوّح بالتنازل التكتيكي في غزة لتحقق مكاسب استراتيجية في الضفة. بمعنى آخر، تمنح واشنطن “هدية غزة” وتسترد بالمقابل “جائزة الضفة”. وهو ما يجعل الخطوة الحالية ليست إجراءً قانونياً فحسب، بل مناورة جيوسياسية محسوبة بدقة ضمن لعبة تبادل المصالح بين تل أبيب وواشنطن.

ما يحدث الآن هو تغيير جذري في فلسفة إدارة الصراع. إسرائيل لم تعد تراهن على المفاوضات، بل على فرض الأمر الواقع، ولم تعد تخشى ردود الفعل الدولية، لأن موازين القوى الإقليمية أصبحت في صالحها. الضم هذه المرة لن يأتي بدبابات أو بيانات عسكرية، بل بتشريعات قانونية ومدنية تكرس وجوداً دائماً يصعب التراجع عنه. إنها خطة متكاملة لتصفية القضية الفلسطينية على مراحل: تبدأ بتفكيك السلطة وتقويض استقلالها المالي والإداري، تمر بتوسيع الاستيطان ودمج المستوطنات في البنية القانونية الإسرائيلية، وتنتهي بضم فعلي “هادئ” للضفة الغربية تحت شعار السيادة.

هذه ليست مجرد أزمة سياسية، بل تحوّل استراتيجي يعيد تعريف مفهوم الاحتلال نفسه. فبدلاً من احتلال مؤقت، نحن أمام ضم دائم يغيّر هوية الأرض ويعيد رسم خريطتها القانونية والسياسية. ومع غياب ردع دولي حقيقي، تتجه المنطقة إلى مرحلة جديدة من الصراع المفتوح، حيث تتلاشى الحدود بين القانون والهيمنة، ويُعاد رسم المستقبل الفلسطيني بخطوط إسرائيلية خالصة.

الكاتب الصحفي صموئيل العشاي – باحث في الشأن السياسي العربي والإسرائيلي

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى