مفتي الجمهورية: التراث الإسلامي ركيزة للاجتهاد في الفتوى وصيانة لمصلحة الأمة

أكد الدكتور نظير محمد عياد، مفتي الجمهورية ورئيس الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم، أن التراث الإسلامي يشكل قاعدة راسخة للاجتهاد في إصدار الفتاوى، وأن الاستفادة منه ضرورة لتحقيق مصالح الأمة في ظل التحديات المعاصرة. أُلقيت المحاضرة في كلية الشريعة والقانون بجامعة العلوم الإسلامية في ماليزيا، وتناولت دور التراث كمرتكز للاجتهاد وتداعيات الحفاظ على مصالح المجتمع الإسلامي في الواقع الراهن.

وأشار المفتي إلى أن موقفنا من التراث في زماننا قد يتباين في ثلاثة اتجاهات رئيسة: اتجاه يغلّب الحفاظ على التراث حتى جعله مرادفًا لصحيح الدين، ويدعو للالتزام بكل ما ورد فيه من أقوال ومذاهب دون مراعاة لتغير الزمان والمكان؛ وهو موقف يراه قاصرًا عن روح الإسلام. كما يوجد اتجاه آخر ينكر التراث ويدعو إلى القطيعة معه والاتباع النظري للنظريات المادية، حتى لو خالفت الدين وتطرّق إلى باطل؛ وهذا النهج كذلك يجانب المنهج العلمي السليم ويهدم القيمة الحضارية للتراث. أما الاتجاه الثالث فالموقف الوسطي الذي يعتمده الأزهر الشريف جامعًا وجامعة، فيأخذ من التراث ما يواكب واقع الناس اليوم ويرفض الأخذ بكل الأقوال التي قيلت في سياقات تاريخية محددة.

وعرض المفتي المنهجية المثلى في التعامل مع التراث، والتي تقوم على أربعة أركان أساسية: نفـي العصمة عن التراث باعتباره جهدًا بشريًا قابلاً للخطأ والصواب؛ واستنـاد المنهج إلى ما قاله ابن رشد من أن ننظر في ما قالوه وننظر في دلالاته: ما وافق الحق نلتزمه ونسعد به، وما خالفه ننبّه عليه ونحذّره ونؤكد عذرهم إن كان ذلك من منظور العلم والعدل. الاستثمار في الصحيح من التراث لخدمة الإنسانية وبناء الحضارة؛ التجاوز عن الأقوال الشاذة والضعيفة بما يتلاءم مع واقع الناس اليوم، والسعي للاجتهاد والتجديد لصياغة أقوال جديدة تحقق مصالح الناس عاجلًا وآجلًا; وأخيرًا الاعتبار والدراسة والبحث، بحيث ننظر في الخلاف التاريخي كمhdلة تاريخية وبحث علمي، ولا نسمح له بالامتداد إلى حاضر المسلمين ومستقبلهم بشكل يعرقل التقدم، بل نترك حسابه لله تعالى.

كما أوضح المفتي أن النص الذي ثبتت قطعيته ودلالته على الحكم الشرعي لا يجوز الاجتهاد فيه، لأنه لا اجتهاد مع النص. أما النصوص التي ثبتت بطريق ظني أو كانت دلالتها ظنية، فميدان الاجتهاد فيها في الفهم قبل التطبيق، ويتعدد فيها آراء العلماء لتحقيق التيسير وجلب المصالح، إلا أن هذا الفهم لا يعد حكمًا شرعيًا قطعيًا، فالأحكام القطعية لا تتعدد ولا تختلف. الأمة هي التي تتحمل مسؤولية اختيار ما يناسبها من آراء اجتهادية عبر مؤسساتها الدستورية التي توازن بين الآراء وتنتقي ما هو أقرب إلى الصواب أو أنفع للناس، وربما تدمج بين أكثر من رأي، وتراجع ما أخذت به عند تغيّر الظروف، وبذلك تظل الشريعة حية قابلة للتطور بما يواكب المتغيرات ويحقق المصلحة العامة.

ثم انتقل إلى أهمية النظر المقاصدي في الاجتهاد والفتوى، مؤكدًا أن مراعاة المقاصد أثناء تكييف الفتوى هي الضمانة الأساسية لتحقيق مصالح الأمة وصيانتها. المقاصد تمثل الغايات العليا للشريعة التي توجه التشريع والاجتهاد نحو ما ينفع الناس. يُفهم المقصد من النصوص ويُعمل عليه في الواقع. وتُقسَم مقاصد الشريعة إلى ضروريّات وحاجيّات وتحسينات، مع حفظ الكليات الخمس: الدين، النفس، العقل، المال، النسل، فهذه الكليات تُحفظ للأمة قبل الأفراد، فحفظ الدين ي tum صيانة العقيدة، وحفظ النفس حماية الأرواح، وحفظ العقل وقايته من الخلل، وحفظ المال من الضياع والاعتداء، وحفظ النسل من الانقراض والفساد.

وأشار المفتي إلى أن بلوغ رتبة الاجتهاد الكامل لا يتحقق إلا بمراعاة هذه المقاصد فهمًا وتطبيقًا. وقد قرر الإمام السبكي أن الاجتهاد الحق يقوم على إحاطة المجتهد بقواعد الشريعة وممارسته للنظر في مقاصدها حتى يدرك مراد الشرع وإن لم يصرح به النص. كما بيّن الإمام الشاطبي أن درجة الاجتهاد لا تُنال إلا بفهم المقاصد فهمًا عميقًا وارتباطًا بالقدرة على الاستنباط. وإغفال هذه القواعد المنهجية في التعامل مع التراث أدى إلى اضطراب في الفقه والفتوى وظهور تشدد مفرِط وتساهل مخلّ وصدرت فتاوى شاذة من غير المؤهلين، مما أوقع الناس في الحيرة والبلبلة ونشأت نزعات تكفيرية داخل بعض الجماعات.

ومن أبرز أسباب انتشار فكر التكفير الفهم الخاطئ للنصوص وتفسيرها حرفيًا دون مراعاة مقاصدها أو تأويلها بشكل غير معتبر، إضافة إلى الركون إلى الأقوال الشاذة التي وردت في بعض كتب التراث وخالفت الإجماع. إن الجهل هو السبب المشترك في هذين المسلكين، فالمبادرة إلى التكفير تغلب على من يجهل العلم. كما حذر العلماء من خطورة التساهل في التكفير، فذلك يفضي إلى مفاسد عظيمة تمس الدين والحقوق وتفكك المجتمع. وأكدوا أن التكفير يجب أن يكون مبنيًا على العلم والحكمة وبعيدًا عن الظنون والتجرد من التوازن.

اختتم المفتي emphasizing أن تكفير المسلمين خطر حاد يهدد وحدة الأمة واستقرارها، وأن واجب العلماء التصدي لهذه الظواهر بالعلم والحكمة وتثبيت منهج الوسطية والاعتدال. دعا إلى التمسك بروح الإسلام السمحة التي تدعو إلى الرحمة والتآلف لا إلى العنف والتناحر، سائلاً الله أن يوفق العلماء والمفتين لما فيه الخير والرشاد، وأن تكون الفتوى نورًا يبدد ظلمات الجهل والتطرف، وأن تجمع الأمة على كلمة الحق وتؤلف القلوب، وتُرسخ قيم السلام والرحمة والعدل في العالم.

حضر المحاضرة عدد من القيادات الدينية والعلمية، وفي ختام اللقاء كُرّم المفتي ومنحه لقب أستاذ زائر من جامعة العلوم الإسلامية في ماليزيا تعبيرًا عن تقدير الجهود المخلصة في نشر الفكر الوسطي وتعزيز الحوار الحضاري ودعم العلاقات العلمية والدينية بين مصر وماليزيا.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى