عثمان الشويخ يكتب السلام قوة: دروس التاريخ وقيادة المستقبل

في 25 أكتوبر 2025، شهدت مصر احتفالية وطنية كبرى تحت عنوان “مصر: وطن السلام” في مدينة الفنون والثقافة بالعاصمة الإدارية الجديدة، بحضور الرئيس عبد الفتاح السيسي وعدد من الشخصيات البارزة. لم تكن هذه المناسبة مجرد احتفال عابر، بل كانت تأكيداً استراتيجياً على خيار السلام كأساس للسياسة المصرية، متزامناً مع الذكرى الـ52 لانتصارات أكتوبر المجيدة. خلال الاحتفالية، وقع الرئيس السيسي على “رسالة سلام من مصر إلى العالم”، في لحظة رمزية تعكس إيمان الدولة بأن السلام ليس مجرد خيار، بل هو بوصلة توجه السياسة الخارجية والداخلية. وفي لحظة مؤثرة، حيا الرئيس فتاة فلسطينية صغيرة شاركت في الفعالية، ما يعزز رسالة التضامن والأمل في مستقبل أفضل. هذا الحدث، الذي جاء بعد أسابيع قليلة من قمة شرم الشيخ للسلام في 13 أكتوبر 2025، يدعونا إلى تحليل كيف يمثل السلام قوة حقيقية، مستمدة من دروس التاريخ وتطبيقاتها في الواقع المعاصر.

قد يرى البعض في الدبلوماسية والحوار مجرد “لين” أو تنازل، لكن التاريخ يثبت أنها أعلى درجات القوة الاستراتيجية. منذ فجر الحضارات، اعتمدت الشعوب على الرسل والمبعوثين لإدارة النزاعات، إدراكاً منها أن الحروب، رغم ضرورتها أحياناً، تكلف الجميع ثمناً باهظاً في الأرواح والموارد. تحليلياً، يظهر أن التفاوض ليس ضعفاً، بل هو استثمار في الاستقرار طويل الأمد، حيث يسمح بتوجيه الموارد نحو التنمية بدلاً من الدمار. على سبيل المثال، تكلف الحروب المعاصرة مليارات الدولارات، كما في حالة النزاعات الإقليمية الأخيرة، مما يعيق النمو الاقتصادي ويزيد من الفقر واللجوء. في هذا السياق، يبرز السلام كأداة لتحقيق التوازن، حيث يعزز الشراكات الاقتصادية والأمنية، ويقلل من مخاطر التصعيد غير المتوقع.

مصر، كحضارة عريقة، تُعد نموذجاً لهذا النهج. بعد معركة قادش في 1274 ق.م – واحدة من أكبر المعارك في التاريخ القديم، حيث اشتبك جيش رمسيس الثاني مع الحثيين في سوريا مما أسفر عن خسائر فادحة للجانبين دون حسم واضح – لم تلجأ مصر إلى الإبادة أو الاستمرار في الصراع. بل وقعت في 1259 ق.م أول معاهدة سلام مسجلة في التاريخ، المعروفة بـ”المعاهدة الأبدية” أو “معاهدة الفضة”. تضمنت المعاهدة، المحفوظة في نصوص هيروغليفية في معابد الكرنك والرامسيوم، ونسخ أكادية في حاتوشا (عاصمة الحثيين)، بنوداً مثل السلام الدائم، المساعدة العسكرية المتبادلة ضد التهديدات الخارجية أو الثورات الداخلية، وتسليم اللاجئين السياسيين. تحليلياً، لم تكن هذه المعاهدة مجرد وقف للعداء، بل تحالفاً استراتيجياً سمح لمصر بالتركيز على مواجهة تهديدات أخرى مثل شعوب البحر، وللحثيين على مواجهة الآشوريين. استمرت السلام لأكثر من 80 عاماً، حتى سقوط الإمبراطورية الحثية، مما يثبت أن السلام يبني تحالفات مستدامة أقوى من الانتصارات العسكرية المؤقتة. هذا الإرث المصري يؤكد أن القوة الحقيقية تكمن في القدرة على القتال عند الضرورة، والذكاء في بناء السلام لاحقاً.

اليوم، تكرر القيادة المصرية هذا الدرس بحكمة وصبر استراتيجي. يؤكد الرئيس السيسي مراراً أن مصر تتعامل مع التحديات الإقليمية بـ”حكمة وصبر”، مشدداً على أن “لن ندخل حرباً إلا إذا فُرضت علينا”، مع الحفاظ على الاستعداد التام. هذا الموقف ليس سلبياً، بل هو مسؤولية وطنية تعكس قضية عادلة لا تتعدى على حقوق الآخرين. تحليلياً، يساهم هذا النهج في تعزيز دور مصر كوسيط إقليمي موثوق، مما يعزز نفوذها الدبلوماسي ويجذب الاستثمارات الأجنبية. على سبيل المثال، في النزاع بغزة، ساهمت الجهود المصرية المضنية – بالتنسيق مع قطر والولايات المتحدة – في التوصل إلى وقف إطلاق نار في يناير 2025، تلاه اتفاق إسرائيلي-فلسطيني في أكتوبر 2025. كما استضافت مصر قمة شرم الشيخ للسلام في 13 أكتوبر 2025، برعاية مشتركة مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وحضور قادة مثل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. تهدف القمة إلى إنهاء الحرب، إطلاق سراح الرهائن والأسرى، ودعم إعادة الإعمار في غزة، مع توقيع إعلان يدعو إلى “صفحة جديدة من السلام”. هذه الجهود، التي أشاد بها الرئيس السيسي شكراً لله أولاً، تثبت أن القوة الناعمة قادرة على تحقيق ما تعجز عنه القوة العسكرية وحدها، حيث ساهمت في منع تصعيد إقليمي أوسع وفتح أبواب للتعاون الاقتصادي، مثل مشاريع الغاز الطبيعي في المتوسط.

شهر أكتوبر، شهر النصر، يذكرنا بانتصارات 1973، حيث لم يأت النصر بقوة الجيش فقط، بل بقوة الشعب كما أكد الرئيس: “الشعب الذي يرفض الهزيمة يعينه الله على النصر”. تحليلياً، تعلم حرب أكتوبر درساً أساسياً: استخدام القوة العسكرية كوسيلة لتحقيق أهداف سياسية، حيث غيرت الوضع الراهن وأدت إلى معاهدة السلام مع إسرائيل في 1979، واسترجاع سيناء. اليوم، يعكس هذا الدرس في السياسة المصرية، حيث يجمع بين الاستعداد العسكري والدبلوماسية للحفاظ على السيادة دون إهدار الموارد. كما أظهرت الحرب أهمية الاستخبارات والتخطيط، درس تعلمته مصر لتعزيز أمنها الإقليمي.

في الختام، تعمل القيادة السياسية المصرية والجيش الباسل بجد لصون الوطن، لكن القوة الحقيقية تأتي بفضل الله، ثم بشعب واعٍ يدعم السلام ككنز وطني. هذا النهج ليس مجرد سياسة، بل استراتيجية لبناء مستقبل مزدهر، حيث يوفر السلام موارد للتنمية الاقتصادية، يعزز الاستقرار الاجتماعي، ويمنع النزاعات المستقبلية. في عالم مليء بالتوترات، تظل مصر نموذجاً يثبت أن السلام ليس ضعفاً، بل أقوى أسلحة القيادة الحكيمة.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى