أقول لكم : لا تصدقوا ترامب

تحدث الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن تدخّل الجيش الأمريكي «لإنقاذ مسيحي نيجيريا». وأنا — وبالمطلق — لا أصدق هذا الرجل، ولا أصدق الخطاب الأمريكي الذي يتزيّن كل مرة بستار “حماية الأقليات”. أقول هذا عن قناعة راسخة مبنية على قراءة تاريخ طويل من السياسة الأمريكية، سياسة لم تجلب للمسيحيين، وبالأخص مسيحي الشرق الأوسط، سوى الألم والتهميش والخراب. هذا التاريخ يشهد على أن الولايات المتحدة دائمًا ما تتدخل تحت غطاء إنساني، لكن النتائج تكون دائمًا كارثية على الأقليات التي تدعي حمايتها، مما يجعل أي ادعاء جديد مشكوكًا فيه من الأساس.
من أفغانستان إلى صعيد مصر… نفس اليد التي سلّحت، هي اليد التي أشعلت النيران ففي الثمانينيات، دعمت الولايات المتحدة الجماعات الجهادية في أفغانستان في حربها ضد الاتحاد السوفيتي. رفعت شعار الحرية والديمقراطية، بينما سلّحت مَن سيعود لاحقًا وينشر العنف في المنطقة بأكملها. هؤلاء المقاتلون عادوا إلى مصر، وصبّوا غضبهم على رجال الشرطة الأبطال وعلى الكنائس والأقباط: تفجيرات متكررة، قتل جماعي، خطف أفراد، إحراق ممتلكات وقرى بأكملها. الصعيد تحديدًا دفع ثمنًا ثقيلًا جدًا، حيث تحولت قرى مسالمة إلى ساحات دمار. وكل ذلك كان نتيجة مباشرة لدعم أمريكي سابق أشعل التطرف ثم تركه بلا رقابة أو مساءلة، مما أدى إلى انتشار الإرهاب في المنطقة لعقود طويلة.
وتذكر انه حين دعمت أمريكا «التغيير»، كانت الفوضى هي النتيجة، ففي مرحلة أخرى، دعمت أذرع في الحزب الديمقراطي منظمات وشخصيات تحت شعار «دعم التغيير». مؤتمرات تُقام لثلاثة أشخاص فقط، تصوير إعلامي مكثف لإيهام العالم بأن هناك «حراكًا ضخماً» يغير الواقع. وفي النهاية، صعد الإخوان إلى الحكم، ورُفعت العبارة الشهيرة للأقباط : “اللي مش عاجبه يهاجر كندا”. وبعد أن ينحاز الجيش للشعب وينتصر لمصر في ثورة شعبية عارمة. قضينا عشر سنوات كاملة من العمليات الإرهابية اليومية، واستهداف مباشر ومنهجي للجيش والشرطة وللأقباط والكنائس، قبل أين كانت أمريكا حينها؟ كانت تراقب المشهد من بعيد وكأن الألم المصري لا يهمها على الإطلاق، بل كانت تدعم الإخوان سرًا لأغراض سياسية.
خارج مصر… نفس السيناريو يتكرر ووجدنا القاعدة، داعش، النصرة… تعددت الأسماء والتنظيمات، والمصالح الأمريكية واحدة لا تتغير. دعمت الولايات المتحدة فصائل مسلحة في سوريا والعراق بحجة «تحقيق توازنات سياسية» مزعومة، بينما كانت النتائج كارثية على الأرض: تهجير المسيحيين من مناطق عمرها آلاف السنين، وتفريغ الشرق الأوسط من وجوده المسيحي التاريخي العريق. هذا الدعم أدى إلى تدمير مجتمعات بأكملها، وترك المسيحيين بدون حماية حقيقية، مما يعكس أن السياسة الأمريكية تهتم بالتوازنات الجيوسياسية فقط، لا بحياة الناس.
وفي سوريا تحديدًا، دعمت السعودية جماعة إرهابية تُسمى هيئة تحرير الشام، وساعدتها أمريكا في التمدد والسيطرة
تحولت سوريا إلى ساحة حرب مذهبية واسعة النطاق، ودُفع المسيحيون والدروز والشيعة ثمنًا باهظًا لذلك. الدعم الأمريكي المباشر والغير مباشر سمح لهذه الجماعات بالسيطرة على مناطق واسعة، مما أدى إلى قتل وتهجير جماعي، وتدمير التراث المسيحي في سوريا. هذا السيناريو يتكرر دائمًا، حيث يتم استخدام الجماعات المتطرفة كأدوات، ثم يتم التخلي عنها عندما تنتهي المهمة.
حتى السلفيين شملهم الدعم الأمريكي وصل الأمر إلى دعم شخصيات سلفية بشكل مباشر، وتسهيل سفر أحد قيادات حزب النور إلى أمريكا للحصول على تدريب ودراسة متقدمة، لإعداده — كما قيل — لـ «مرحلة سياسية قادمة» في المنطقة. السؤال الجوهري: منذ متى تهتم أمريكا بإعداد قيادات دينية داخل مجتمعاتنا العربية والإسلامية؟ هذا الدعم يكشف عن نية خفية للتلاعب بالتوازنات الداخلية، لا لحماية أي أقلية.
الهدف الحقيقي ليس المسيحيين… بل حماية إسرائيل ومحاصرة خصومها
لا ترامب ولا غيره يهمه المسيحيون أبدًا. ولا يعنيه مصيرهم في نيجيريا أو الشرق الأوسط أو أي مكان آخر في العالم. الولايات المتحدة تتحرك فقط حين تُهدد مصالحها الاستراتيجية، أو يقترب نفوذ روسي قوي، أو تتمدد الصين في أفريقيا والشرق الأوسط بقوة. ما يحدث ليس دفاعًا عن المسيحية أو الأقليات، بل صراع نفوذ دولي شرس، والمسيحيون مجرد ورقة تُستخدم وقت الحاجة ثم تُرمى جانبًا.
أقول لكم لا تصدقوا ترامب. ولا تصدقوا خطابًا أمريكيًا يتزيّن بعبارات «حقوق الإنسان» و«حماية الأقليات» البراقة. من يملك تاريخًا طويلًا من تغذية التطرف والفوضى في المنطقة لا يمكنه فجأة أن يتحول إلى «منقذ». هم لا يحاربون الشر… هم يستخدمونه كأداة لأغراضهم. إنها فقط محاولة أميركية جديدة للتمدد الجيوسياسي ومواجهة النفوذ الروسي الصيني المتزايد، لا أكثر ولا أقل. التاريخ يعلمنا أن الثقة في مثل هذه الادعاءات تؤدي دائمًا إلى المزيد من الخراب.