رفعت فياض يكتب: يوم بلا شاشات

يوم بلا شاشات!

هل يمكن أن نتخيّل يومًا كاملًا بلا “فيسبوك”، بلا “تيك توك”، بلا “سناب شات”، بلا “إعجابات” ولا “مشاركات” ولا “إشعارات” تلاحقنا كل دقيقة؟ وهل نستطيع أن نبتعد يومًا عن السباق المحموم وراء “اللايك” و”الشير” ونستعيد حياتنا كما هي، ببساطتها ودفئها وصدقها؟

هذا هو التحدي الذي طرحته — وما زالت تطرحه — مبادرة “معًا يوم بلا شاشات” تحت قيادة الدكتورة منى الحديدي، أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة، وعضو المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، وعضو المجلس الأعلى للثقافة. إنها دعوة لأن نمنح أنفسنا استراحة قصيرة من العالم الافتراضي، لنعود إلى التواصل الحقيقي مع الأسرة والأصدقاء، ونستثمر وقتنا في أنشطة واقعية تعيد إلينا طاقة الحياة بعيدًا عن ضجيج التطبيقات والشاشات.

المبادرة هي نشاط وجهد جماعي لعدد من أساتذة الإعلام والخبراء الإعلاميين، وتستند إلى جهود توعوية واسعة تشمل المدارس والجامعات، إضافة إلى برنامج متكامل من الندوات والأنشطة الترويجية والترفيهية والثقافية والرياضية والفنية، بما يعيد أبناءنا إلى أجواء اللقاءات المباشرة والأنشطة الفكرية والإبداعية المتنوعة.

الهدف أن نعيد إحياء عادات مثل قراءة الكتب، ممارسة الفنون والموسيقى، واستثمار الوقت في أنشطة مفيدة تردّنا مرة أخرى إلى العالم الواقعي بجمالياته وطاقاته الحقيقية.

والحقيقة أن الأمر جدّ خطير؛ ففي العام الماضي اعتمد قاموس أكسفورد مصطلح “تعفّن الدماغ” Brain Rot عام 2024، وهو تعبير عن الحالة المزرية التي يصل إليها الإنسان جرّاء الاستخدام المحموم والمشاهدة المستمرة لمقاطع الفيديو القصيرة المعروفة بـ Reels. ويمكن اعتبار هذه المبادرة أيضًا صرخة احتجاج على المحتوى غير المقبول الذي يتم نشره عبر تلك التطبيقات، وخاصة تطبيقات التواصل الاجتماعي وما يقدّمه الـ Influencers من محتوى غير أخلاقي أو تافه، وهو ما انتبهت إليه الدولة مؤخرًا وبدأت في إلقاء القبض على عدد كبير منهم، ورأينا كيف كان المستوى، وكيف كانت الأغراض، وكيف كانت النتيجة.

والخطير في هذه القضية أيضًا ما تكشفه الدراسات الحديثة التي أكدت أن الاستخدام المفرط لمواقع التواصل الاجتماعي يترك أثرًا مباشرًا على الصحة النفسية للشباب، حيث يزيد من معدلات القلق والاكتئاب، ويقلل من التركيز وجودة النوم. كما أن الأطفال والمراهقين يقضون ساعات طويلة أمام تلك المواقع والمنصات على حساب الرياضة والهوايات وحتى الجلسات العائلية.

من هنا تأتي أهمية أن يكون هناك يوم في السنة نتفق فيه جميعًا على ترك هذه المواقع جانبًا، والعودة إلى ممارسة أنشطة حياتية طبيعية مثل القراءة والتنزه واللعب، أو مجرد محادثة وجهًا لوجه.

هذه الفكرة ليست جديدة على العالم؛ فقد سبقتنا إليها دول عدة أطلقت مبادرات مشابهة. ففي الولايات المتحدة وكندا ظهرت مبادرة “Disconnect to Connect” التي تشجع الأسر والأفراد على إغلاق الأجهزة ليوم واحد واستثمار الوقت في التواصل الحقيقي.

وفي فرنسا خصصت بعض المدارس أيامًا بلا هواتف محمولة لإعادة الانتباه إلى أهمية التفاعل المباشر بين الطلاب.

أما في الهند، فقد أطلقت منظمات أهلية حملات تحت عنوان “Digital Detox Day” للحد من الإدمان الرقمي وتعزيز الوعي بخطورة الاستخدام المفرط للشاشات.

وفي السويد برزت تجربة رائدة عبر ما يُعرف بـ “Screen-Free Week” التي تبنتها بعض المؤسسات التعليمية والثقافية، حيث يتم تنظيم أنشطة بديلة للأطفال والعائلات من قراءة ورياضة وفنون، بهدف تعزيز قيمة الوقت الحقيقي بعيدًا عن الأجهزة.

هذه التجارب مجتمعة أثبتت أن تخصيص يوم سنوي بلا شاشات ليس مجرد رمز، بل خطوة عملية لتذكير المجتمعات بضرورة التوازن بين العالم الرقمي والواقعي.

وتستهدف هذه المبادرات أيضًا الأسرة، التي يقع على عاتقها دور كبير في تشجيع أبنائها على المشاركة، ليس فقط عبر التوجيه، وإنما عبر القدوة المباشرة. فوجود الأهل في هذه المبادرة جنبًا إلى جنب مع أبنائهم يمنحها ثقلًا أكبر، ويجعلها تجربة أسرية ممتدة الأثر.

وهنا يأتي دورنا جميعًا: شبابًا وأطفالًا وأُسرًا؛ لنجعل من مبادرة “معًا يوم بلا شاشات” موعدًا سنويًا نلتزم به ونعيشه معًا.

دعونا نترك مواقع التواصل الاجتماعي ليوم واحد فقط، لنضيء قلوبنا بعلاقات أصدق، ونعيد اكتشاف متعة الحياة بعيدًا عن العالم الافتراضي. فلتكن دعوتنا صريحة: شاركونا هذه المبادرة، وكونوا جزءًا من تجربة جماعية تثبت أن الواقع أجمل دائمًا من الشاشة.

أعرف — كمتخصص — أن المبادرة لن تنجح مع الجميع، ولا أعتقد أن كثيرين سيكونون قادرين على البقاء بلا شاشات لمدة يوم كامل؛ فالبعض قد يصمد لسويعات قليلة، تمامًا كما ندرب الطفل على الصيام، فلا ضير أن يمتنع عن الطعام والشراب حتى موعد أذان الظهر، ثم إلى العصر، حتى يصل إلى صيام يوم كامل. ولذلك فإن كل من ينضم إلى المبادرة سيستطيع أن يتعرف على درجة إدمانه وقوة إرادته، وأيضًا سيتعرف على حياته بدون تلك الأجهزة: هل لديه حياة حقيقية؟ أم سيحتاج إلى مراجعة نفسه ومحاولة بناء حياة حقيقية بنّاءة وفاعلة؟ ثم بعد نجاحه في تنفيذ “يوم بلا شاشات”، نتمنى أن يعود إلى الاستخدام مرة أخرى بمنظور جديد أكثر وعيًا بالمخاطر، وأكثر قدرة على التوازن بين الشاشات وعالمها الافتراضي وبين الحياة الطبيعية التي أنعم الله بها علينا منذ لحظة الميلاد، لنقدّرها ونستفيد منها ونستمتع بها.

وإليك — عزيزي المعترض أو المعتقد بعدم القدرة على الانضمام إلى المبادرة — أقول ببساطة: “جرّب”، فالتجربة خير دليل. لن يفوتك الكثير عند الانضمام، ولكنك ستكسب الكثير، وعلى رأس المكاسب: نفسك التي بين جنبيك.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى