فوزي عبد المسيح يكتب: زمن بلا أخلاق

في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتمدّد فيه وسائل التواصل الاجتماعي، تقدّم الإنسان في العلم والاختراع، لكنّه في المقابل خسر شيئاً أثمن بكثير: خسر روحه وقيمه وأخلاقه. أصبحنا نُحمِّل الزمان مسؤولية ما يحدث، بينما الخطأ فينا نحن، في اختياراتنا وفي الطريقة التي غيّرنا بها مفهوم العلاقات الإنسانية والفضيلة.

لم تعد البركة كما كانت، ولا السكينة كما عرفناها في بيوت آبائنا. قيمٌ كانت تُبنى عليها البيوت والمجتمعات — الصدق، الأمانة، الوفاء، الصداقة، الإخلاص — تراجعت لتحلّ محلها مفردات جديدة: اللف والدوران، استغلال الفرص، الكذب تحت اسم “ذكاء”، والخداع تحت اسم “حرص ووعي”. صارت المصالح معيار العلاقات، حتى بين من يعيشون تحت سقف واحد.

كثيرون يجلسون إلى نفس المائدة، يأكلون معاً، يضحكون معاً، لكن كلٌّ منهم يُخفِي خنجره في داخله، ينتظر فرصة ليطعن الآخر، ويبرّر ذلك بعبارات مثل: “لا أسمح لأحد أن يضحك عليّ”، أو “هذه خبرة في الحياة”.

أصبحت الخيانة بين الأصدقاء أمراً عادياً؛ صديقة تستغل أسرار صديقتها لتأخذ مكانها، أخ يقف ضد أخيه في المحكمة من أجل ميراث، ابن يرفع صوته على أبيه وربما يعتدي عليه، تحت عذر أن “الزمن تغيّر”. تُسرق المحبة، ويختفي الحياء، وتتآكل الأسرة باسم الحرية والجرأة والذكاء الاجتماعي.

حتى العلاقات العاطفية لم تسلم من التزييف. شخص يتظاهر بالمحبة، بينما في داخله حسد وغيرة وانتقام. وآخر يرتدي قناع الملائكة أمام الناس، بينما يزرع الفتن بينهم فقط لمعرفة كيف يفكرون أو لمجرد الشعور بالسيطرة.

في بيئة العمل، نجد موظفاً أميناً مخلصاً فيُهمل، ومخادعاً ينال الثناء والفرص لأنه يتقن التملّق والظهور. صاحب العمل يظلم العامل تحت مسمّى: “يكفي أني أعامله جيداً”، بينما العامل الأمين يُسحق، والآخر الذي يتقن اللعب على الحبال يصبح مقرّباً وصاحب حظوة.

اندثرت الأمانة، وظهر الاستغلال.
تلاشت الحشمة، وحلّ محلها “الموضة”.
تحوّلت وسائل الاتصال إلى وسائل علاقات خاطئة تحت اسم “صداقة وتعارف”.
صار مقياس القيمة المال والشهرة، لا الأخلاق ولا العلم.

تبدّلت المقاييس حتى غدت الراقصة قدوة، ومن يسمّون أنفسهم فنانين يحضرون المؤتمرات، بينما العالم والمفكّر مهمّشون، لا يسمع أحد صوتهم. أصبحت الأعمال الهابطة تحقق الأرباح، بينما القصص ذات القيمة الحقيقية لا تجد من يلتفت إليها.

في الماضي، كان الناس يحترمون الكبير لأخلاقه وحكمته، أما اليوم فصار الاحترام لأصحاب المال والنفوذ مهما كانت سيرتهم.
كان الفرح مناسبة للبركة، واليوم أصبح إسرافاً وديوناً وقروضاً كي “نظهر بمظهر يليق بالصورة”.

لم يتغيّر الزمن — نحن الذين تغيّرنا.
الأيام ثابتة، لكن الإنسان هو الذي فقد بوصلته القيمية.

إننا لا نحتاج زمناً جديداً؛
نحتاج قلباً جديداً، ضميراً جديداً، إنسانية قديمة.

نحتاج أن نرجع إلى ما تعلّمناه من آبائنا وأجدادنا:
أن الأخ أخ، والصديق سند، والابن امتداد الرحمة، والاحترام أساس العلاقة.

قل لي، كيف نعود إلى ذاك الزمن الجميل؛ زمن البركة والبساطة، زمن المحبة بلا حساب، والقلوب الصافية بلا شروط؟ الزمن الذي كانت فيه الكلمة أغلى من توقيع، والوعد أقوى من العقد؟

ربما لا نستطيع إرجاع الأيام…
لكننا نستطيع إعادة الإنسان.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى