صدمة الفنان والزعيم الوطني: ياسر جلال ومصطفى كامل.. حين تتحطم الصورة الرومانسية

لم يكن الفنان ياسر جلال يتخيل أن كلمة شكر صادقة – يعبر فيها عن امتنان مصر لدعم الجزائر في حروبها – ستتحول إلى عاصفة من الغضب والانتقادات. قال الحقيقة ببساطة وصدق، لكن رد الفعل كان الهجوم لا الاستماع.
هنا تكمن الإشكالية العميقة: غضبنا لا ينبع من خطأ الكلام، بل من جهلنا بالتاريخ الذي يدعمه. نرفض الحقيقة لأنها تتعارض مع الصورة المثالية التي رسمناها في أذهاننا، فنتجنب البحث والفهم، ونفضل الصراخ على التأمل.
هذا التصادم يأخذنا إلى قلب التاريخ المصري الحديث، حيث يبرز مثال أعمق وأكثر تعقيدًا: الزعيم الوطني مصطفى كامل، مؤسس الحزب الوطني، ورمز الحركة الوطنية التي أشعلت شرارة المقاومة ضد الاستعمار.
عندما نستذكر اسمه، تتردد فورًا عبارته الخالدة: «لو لم أكن مصريًا لوددت أن أكون مصريًا»، تلك الصرخة التي تجسد حب الوطن بأعمق معانيه. لكن خلف هذه العبارة الرومانسية، تكمن حقائق تاريخية أكثر تعقيدًا، غالبًا ما نغفلها لأنها لا تتناسب مع الصورة البطولية المبسطة التي نحبها.
مصطفى كامل لم يكن يسعى إلى تحرير مصر من التبعية العثمانية كما يُصوَّر أحيانًا. بل على العكس، كان يرى في السلطان العثماني مرجعًا شرعيًا وحاميًا لمصر، مظلة سياسية ودينية تحمي الهوية الإسلامية والسيادة المصرية. نضاله كان موجهًا بالكامل ضد الاحتلال البريطاني، الذي اعتبره العدو الحقيقي الذي يجب طرده بكل قوة.
بالنسبة له، كانت الخلافة العثمانية رمزًا للوحدة الإسلامية، وقوة شرعية تستحق الولاء، بينما الإنجليز يمثلون الغزو الأجنبي الذي ينهب الأرض ويذل الشعب. كان يؤمن أن قوة مصر تكمن في تعزيز ارتباطها بالسلطان، لا في فكّه، فالتخلص من البريطانيين هو السبيل الوحيد لاستعادة الكرامة والاستقلال الفعلي ضمن إطار الخلافة.
هذا الاختيار لم يكن ضعفًا أو تنازلاً، بل استراتيجية مقاومة مدروسة في سياق عصر معقد. كان مصطفى كامل ابن زمانه، يعيش في حقبة تاريخية ترى في الخلافة درعًا ضد الاستعمار الأوروبي المتغطرس. لم يكن يرى العثمانيين محتلين، بل حلفاء في مواجهة الخطر الأكبر. ومع ذلك، نميل نحن – في عصرنا – إلى إسقاط معايير اليوم على رموز الأمس، فنصنع منهم أبطالًا مستقلين تمامًا، ضد كل قوة خارجية، متجاهلين التعقيدات السياسية والدينية التي شكلت مواقفهم.
هكذا، نحول التاريخ إلى أسطورة رومانسية، بعيدة عن الواقع، ونفقد فرصة التعلم من دروسه الحقيقية.
المشكلة واحدة في الحالتين، سواء مع ياسر جلال أو مصطفى كامل: نغضب من الكلمات قبل أن نغوص في السياق خلفها.
يشكر جلال الجزائر على دعمها التاريخي الثابت – دعم موثق في حروب 1967 و1973 – فيُتهم بالمبالغة أو التحيز، دون الرجوع إلى الوثائق أو الشهادات. وفي الوقت نفسه، نرفع مصطفى كامل إلى مرتبة رمز الاستقلال الكامل، رغم أنه لم يطالب أبدًا بقطع الارتباط بالعثمانيين، بل ركز جهده على طرد البريطانيين فقط.
الفرق ليس في الأشخاص أو الأحداث، بل في عمق وعينا التاريخي. عندما نفهم السياق – التحديات، التحالفات، والرؤى الاستراتيجية – نتحول من مجرد ردود فعل عاطفية إلى نقاش موضوعي يبني الأمة. التاريخ ليس قصة بطولات مبسطة، بل نسيج معقد من الاختيارات الصعبة.
دعونا نترك الصور الرومانسية، ونقترب من الحقيقة بتواضع وجرأة، ففي ذلك يكمن سر قوتنا الحقيقية.