إنجازات البابا تواضروس الثاني ودوره التاريخي في تعزيز مكانة الأقباط في مصر

منذ جلوسه على الكرسي البابوي في 18 نوفمبر 2012، سعى البابا تواضروس الثاني إلى إحداث نقلة نوعية في الدور الوطني والروحي والاجتماعي للكنيسة القبطية. وقد جاء عهده ليؤسس لمرحلة غير مسبوقة من الحضور المسيحي في المجال العام داخل الدولة المصرية، وليعيد للكنيسة دورها كقوة استقرار ومؤسسة وطنية راسخة. وفيما يلي قراءة موسعة لأبرز ما أنجزه خلال 12 عامًا من القيادة الهادئة والحكيمة.

أولًا: المكاسب السياسية وترسيخ حقوق الأقباط في الدستور والقانون

شهدت السنوات الأولى لعهد البابا تواضروس تحولات سياسية وقانونية منحت الأقباط قدرًا كبيرًا من الاعتراف والمساواة. فقد جاءت وثيقة دستور 2014 لتضع لأول مرة بنودًا واضحة تخص الشأن القبطي. فقد نصّ الدستور على حق المسيحيين في الاحتكام إلى شرائعهم في الأحوال الشخصية، وهو ما شكل نقلة نوعية في ضمان خصوصيتهم الدينية والقانونية، بعد عقود طويلة من الغموض في التعامل مع هذا الملف.

كما نص الدستور على ضرورة التمثيل المناسب للمسيحيين في المجالس المنتخبة، ما وضع حجر الأساس لدمج الأقباط في الحياة السياسية، ودعم مشاركتهم في صناعة القرار داخل المجتمع المصري. وفي خطوة تاريخية، ألزم الدستور البرلمان بإصدار قانون شامل لبناء الكنائس وترميمها. وقد تحقق ذلك عام 2016 بإصدار قانون بناء الكنائس، الذي أنهى حقبة طويلة من القيود غير المعلنة التي عطلت بناء دور العبادة المسيحية لأكثر من قرن ونصف. وبموجب هذا القانون تم تقنين آلاف الكنائس، وإنهاء واحدة من أكثر القضايا حساسية في تاريخ العلاقة بين الدولة والأقباط.

هذه التحولات السياسية لم تكن مجرد نصوص مكتوبة، بل كانت ثمرة حوار متزن قاده البابا بروح منفتحة ومسؤولة، انطلاقًا من إيمانه بأن المواطنة ليست امتيازًا يمنح، بل حق أصيل لكل فرد في هذا الوطن.

ثانيًا: طفرة غير مسبوقة في التمثيل السياسي للأقباط داخل مؤسسات الدولة

شهدت سنوات البابا تواضروس طفرة واضحة في مشاركة الأقباط داخل البرلمان والمناصب العليا. ففي انتخابات 2015 و2020 ارتفع عدد النواب الأقباط إلى مستويات غير مسبوقة في الحياة النيابية، ما عكس تحولًا حقيقيًا في الثقافة السياسية المصرية، وإدراكًا رسميًا وشعبيًا بأن التمثيل السياسي حق وليس مكافأة.

إلى جانب البرلمان، حقق الأقباط حضورًا مهمًا في مجلس الشيوخ، الذي ضم عددًا من الشخصيات العامة القبطية المؤثرة. كما شهدت الدولة تعيين أول سيدة مسيحية في منصب محافظ، إلى جانب توسع ملحوظ في وجود الكوادر القبطية داخل الجهاز الإداري للدولة، بما في ذلك القضاء، حيث تولى قاضٍ مسيحي رئاسة المحكمة الدستورية العليا، وهو أعلى منصب قضائي في البلاد.

هذه التحولات لم تكن على مستوى الأرقام فقط، بل على مستوى الصورة الذهنية أيضًا. فقد أصبح وجود الأقباط في المواقع القيادية أمرًا طبيعيًا ومقبولًا اجتماعيًا، بعدما كان في الماضي يُعامل بحساسية خاصة أو يُناقش بوصفه استثناءً.

ثالثًا: علاقة خاصة قائمة على الثقة المتبادلة بين البابا تواضروس والرئيس السيسي

من السمات اللافتة في عهد البابا تواضروس العلاقة العميقة التي جمعته بالرئيس عبد الفتاح السيسي. فقد اتسمت هذه العلاقة بالاحترام المتبادل، وبتفاهم واضح حول أهمية المواطنة ووحدة المصريين. ومنذ اللحظة الأولى لظهور الرئيس السيسي كشخصية عامة، أكد البابا أن العلاقة معه تقوم على الصراحة والاحترام والتقدير.

وجاءت لقاءات البابا بالرئيس لتعكس هذا التفاهم. فقد كانت لقاءات مطوّلة يسودها حديث ودي بعيد عن الرسميات، وظهر خلالها اهتمام الرئيس بالتنوع المصري وحرصه على مواجهة أي تمييز بين المواطنين. كما شكل حضور الرئيس لصلوات عيد الميلاد رسالة وطنية كبرى لكل المصريين، مفادها أن الدولة تقف على مسافة واحدة من الجميع. وقد ساهم ذلك في تحسين المناخ النفسي للأقباط، وفي تعزيز الانسجام الاجتماعي.

ومن جانبه، كان البابا تواضروس دائم الإشادة بالتحولات التي طرأت على أوضاع المسيحيين في عهد الرئيس، مؤكدًا أن بناء الكنائس، وتعيين المسؤولين، وتحسن المناخ العام، كلها أمور أدت إلى حالة أفضل من الاندماج والمشاركة.

رابعًا: تعزيز قيم المواطنة والعيش المشترك داخل المجتمع المصري

اعتمد البابا تواضروس في خطابه العام على مبدأ واضح: المصريون جميعًا مواطنون متساوون، لهم الحقوق نفسها وعليهم الواجبات نفسها. وقد تبنى البابا لغة هادئة وعقلانية في الحديث عن قضايا المواطنة، بعيدًا عن الانفعال أو المواجهة، ما ساهم في ترسيخ مناخ من الهدوء والتعايش.

وقد أوضح البابا في أكثر من مناسبة أن الكنيسة ليست مؤسسة مغلقة على نفسها، بل جزء من نسيج المجتمع المصري. ولذلك توسعت مؤسسات الكنيسة في إنشاء مدارس ومراكز خدمية ومستشفيات مفتوحة للجميع دون تفرقة. كما شاركت الكنيسة في مبادرات وطنية لدعم الشباب وتأهيلهم، وهو ما عزز حضورها الاجتماعي والوطني.

وفي مواجهة التطرف الفكري، دعا البابا إلى معالجة جذور المشكلة عبر التعليم ونشر الفكر المستنير، مؤكدًا أن التطرف هو العدو الأول للتعايش، وأن مصر بتنوعها الديني والثقافي قادرة على أن تكون نموذجًا فريدًا في المنطقة.

خامسًا: مواقف وطنية ثابتة خلال الأحداث والأزمات الكبرى

تجلت وطنية البابا تواضروس الثاني في مواقف حاسمة عبر محطات سياسية دقيقة. ففي فترة ما قبل 30 يونيو، عبّر البابا بوضوح عن قلقه تجاه مسار البلاد، وأوضح أنه تحرك بعد ذلك بوصفه مواطنًا يخاف على وطنه. وقد ظهر ذلك في مشاركته في مشهد 3 يوليو، الذي دعا إلى تغيير المسار وحماية الدولة من الانقسام.

وعندما تعرضت الكنائس لاعتداءات إرهابية، لم ينجرف البابا إلى خطاب الكراهية أو الغضب، بل أطلق رسائل تهدئة تدعو إلى الوحدة والتكاتف. وقد أكد مرارًا أن استهداف الكنيسة هو استهداف لمصر كلها، وأن الرد يجب أن يكون وطنيًا لا طائفيًا.

كما حرص البابا على نشر رسائل الأمل والتعزية، داعيًا إلى مواجهة الألم بالرجاء، وتعزيز الروح الإنسانية بين أبناء الوطن الواحد.

الخلاصة: لماذا يستحق البابا تواضروس كل الشكر في عيد جلوسه؟

لأنه خلال سنوات خدمته:
• دعم الدولة في مسارها لبناء المواطنة.
• حافظ على توازن الكنيسة وسلامها الداخلي.
• أعاد صياغة العلاقة بين الكنيسة والدولة على أساس الاحترام المتبادل.
• حقق للأقباط مكاسب سياسية لم تتحقق لعقود طويلة.
• نشر ثقافة المحبة والتسامح والتعايش.
• حمل صوت الحكمة في أصعب لحظات الوطن.

لقد نجح البابا تواضروس في أن يكون أبًا روحيًا وقائدًا وطنيًا وشريكًا في بناء مستقبل مصر، فاستحق عن جدارة أن يُشكر في عيد جلوسه، وأن يحتفي به المصريون جميعًا، مسيحيين ومسلمين، كشخصية وطنية صنعت فارقًا كبيرًا في حياة هذا الوطن.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى