فوزي عبد المسيح يكتب: العودة إلى جوهر الإنسانية

في عالمٍ يركض وراء المادة والمصالح، يختفي الحب شيئًا فشيئًا من حياتنا اليومية. الإنسان مشغول بتحقيق احتياجاته، فتغيب الرحمة والتسامح، ويصبح القلب غريبًا عن ذاته وعن الآخرين. الحب، في جوهره، ليس مجرد شعور عابر، بل تجربة وجودية تعرّف الإنسان على ذاته وعلى علاقته بالآخرين.

للحب أشكال متعددة تتداخل في حياتنا: حب الإنسان لله كمعنى للوجود، والحب الأسري كأساس للتلاحم النفسي والاجتماعي، وحب الصداقات والارتباط كاختيار واعٍ، وحب المجتمع كالتزام أخلاقي. هذه الأنواع لا تزدهر إلا بالوعي والفهم، وبالإدراك أن المحبة الحقيقية تبدأ من المعرفة بالذات وبالآخر.

تعلمنا الأديان والمبادئ الإنسانية أن الحب هو أساس الأخلاق. من خلاله نحتمل الآخرين، ونسامحهم، ونعاملهم بسلام. الحب ليس شعورًا فحسب، بل فعل يومي وممارسة أخلاقية تتطلب وعيًا بالآخر واحترام كينونته. وعندما يغيب هذا الوعي، يسيطر الكره والانانية، ويصبح الإنسان مجرد كائن بلا روح حقيقية.

في زمننا الحالي، كثير من العلاقات تُسمى حبًا لكنها تفتقد جوهره: صداقة قائمة على مصلحة، حب أعمى يتجاهل الحقيقة، أو ارتباطات تنتهي بالخلاف والتجريح. الحب الحقيقي يُعرف بالقدرة على رؤية الآخر كما هو، والالتزام بمصلحته دون انتظار مقابل، والتضحية من أجل نمو العلاقة على أساس الاحترام والثقة.

الحب الحقيقي ليس شعورًا شخصيًا فحسب، بل قوة وجودية تحول الفرد والمجتمع. قلب مليء بالمحبة لله والآخرين يفيض بالرحمة ويخلق مجتمعًا يسوده السلام والتكافل. الحب يبني وعيًا متبادلًا ومسؤولية أخلاقية، ويصبح سببًا لنجاح العلاقات الأسرية والاجتماعية والمجتمعية.

الحب يبدأ من الداخل، من معرفة الذات وفهم المعنى الحقيقي للحياة بعيدًا عن المادة والمصلحة. عندما يحب الإنسان الله والوجود، يصبح قادرًا على محبة الآخرين بصدق، ويعيش حياة متوازنة ومليئة بالإيجابية، فتتحول المحبة إلى فلسفة حياة وممارسة يومية، تعيد للإنسان إنسانيته وتعيد للمجتمع توازنه.

الحب ليس مجرد كلمة أو شعور مؤقت، بل وجود متكامل: وعي، التزام، وعطاء. بدون الحب، يتحول العالم إلى ساحة مصالح ومادية صرفة، وتضيع القيم الإنسانية. المحبة الحقيقية تبدأ من القلب المتصل بالله، فتنبع منها رحمة متبادلة، تسامح، واحترام للآخر، لتصبح حياة الإنسان والمجتمع أقرب إلى الإنسانية الكاملة

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى