صموئيل العشاي يسال الأحزاب الكُبار .. لماذا اخترتم هؤلاء المرشحين؟

لم تعد الأحزاب الكبرى قادرة على الاحتفاظ بتلك الأفضلية القديمة التي طالما اعتقدت أنها مضمونة في أي استحقاق انتخابي. نتائج الـ 19 دائرة التي أُلغيت وأُعيدت الانتخابات بها كشفت بما لا يدع مجالًا للشك أن الشارع تغيّر، وأن الناخب أصبح أكثر وعيًا وقدرة على الفرز، وأن سوء اختيار المرشحين هو السبب الأول في الخسارة الفادحة التي مُنيت بها تلك الأحزاب، ليس فقط في عدد المقاعد بل في الثقة التي بدأت تتآكل تدريجيًا بين القواعد الشعبية وقيادات الأحزاب.

الأرقام جاءت صادمة ومُدويّة. حزب مستقبل وطن دفع بـ 17 مرشحًا، لم ينجح منهم سوى 3 مقاعد فقط من الجولة الأولى، وذهب 10 مرشحين إلى الإعادة، بينما خسر 4 مقاعد كانت تمثل رصيدًا كان يُعتقد أنه مضمون. أما الجهة الوطنية التي شاركت بـ 6 مرشحين، فقد انتهت الجولة الأولى دون تحقيق أي فوز، واكتفت بـ 3 مرشحين في الإعادة، بينما خسرت 3 مقاعد دفعة واحدة. وفي المقابل، ظهر حزب الشعب الجمهوري بـ 4 مرشحين، لم يحسم أي منهم مقعد الجولة الأولى، وذهب الجميع إلى الإعادة، لكنه لم يخسر أي مقعد سابق؛ نتيجة تعكس بقاء تأثيره محدودًا بلا مكاسب جديدة وبلا خسائر. أما حزب حماة الوطن فكانت خسارته الأكثر قسوة، حيث دفع بـ 11 مرشحًا ولم يحسم أي مقعد من الجولة الأولى، وذهب 4 مرشحين فقط للإعادة، بينما خسر 7 مقاعد كاملة في سابقة سياسية تطرح علامات استفهام واسعة، ليس عن إدارة المعركة الانتخابية فقط، بل عن معايير انتقاء الأسماء ودراسة الأرض الانتخابية.

هذه الأرقام ليست نتائج انتخابية فحسب، بل وثيقة إدانة سياسية لآليات العمل الحزبي. فقد تعاملت بعض الأحزاب مع الانتخابات بعقلية الورق لا بنبض الشارع؛ اجتماعات مغلقة واتفاقات فوقية وقوائم تُكتب داخل المكاتب المكيّفة دون النظر إلى الواقع الاجتماعي والتركيبة الشعبية في كل دائرة. ظن قادة هذه الأحزاب أن اللافتات الكبيرة تعني حضورًا، وأن الشعارات تجلب أصواتًا، وأن التاريخ التنظيمي يمكن أن يستمر في قيادة صناديق الاقتراع دون تقديم وجوه مقنعة.

وهنا تبرز الأسئلة التي لا يريد أحد الإجابة عنها:
من يختار هؤلاء المرشحين؟
هل تُحددهم لجان تقييم حقيقية أم دوائر ضيقة؟
هل هو اختيار مبني على كفاءة وخبرة وخدمة مجتمعية؟
أم اختيار وفق تحالفات، مصالح، تفاهمات، وتمويل؟

سوء اختيار المرشحين كان العامل الأشد وضوحًا. فقد ظهر جليًا أن بعض الأحزاب دفعت بمرشحين بلا حضور جماهيري حقيقي، بلا رصيد اجتماعي، بلا علاقة مباشرة بقضايا دوائرهم. هؤلاء لم يعرفوا الناس ولم يعرفهم الناس. فالمرشح الذي يزور الدائرة مرتين كل خمس سنوات ليس كمن يعيش مع أهلها يومًا بيوم، يسمعهم، ويُسمعهم، ويتنفس همومهم. الشارع لم يعد يقبل منازلته قبل الانتخابات فقط، بل يتوقع شراكة وجودية تمتد بين كل دورة وأخرى.

كما أن الخطاب السياسي لدى عدد من الأحزاب بقي رتيبًا وجامدًا، لا يلامس الواقع ولا يعبر عن أولويات الجماهير. المواطن اليوم يريد حديثًا عن الأسعار والاقتصاد وتكاليف المعيشة والتعليم والصحة وفرص العمل؛ يريد من يشعر بألمه قبل أن يلقي خطبة رنانة عن المستقبل. ولم يعد الناس يمنحون أصواتهم للوعود الفضفاضة التي سمعوها، ولم يروا منها سوى صورة التذكارات الدعائية.

الخلاصة أن رسالة الشارع في تلك الانتخابات كانت عالية وواضحة ومباشرة: لن نصوت لمن لا يعرفنا ولا نعرفه، لن نصوت للأسماء التي تهبط بالمظلات، ولا للشعارات التي لا تسكن واقعنا ولا تخاطب معاناتنا. الأحزاب الكبرى خسرت لأنها ظنت أن الشارع كما كان، بينما الشارع تغيّر، والوعي تغيّر، والقواعد التي تُبنى عليها الثقة تغيّرت.

المستقبل لن يكون للأقوى تنظيميًا فقط، بل للأقدر على فهم الناس، والتواصل مع الناس، وخدمة الناس. فالسياسة لم تعد منصة خطاب، بل منصة إصغاء، ومن لا يسمع اليوم، لن يسمع غدًا صوت الصندوق وهو يُعلن الخسارة.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى