صموئيل العشاي يكتب : إعيدوا لنا طارق شوقي وانقذوا العقل المصري

لا تُقاس التجارب الوطنية الكبرى بطول مدتها، بل بعمق أثرها وجرأة رؤيتها. ومن هذا المنطلق، تبقى تجربة الدكتور طارق شوقي في وزارة التربية والتعليم واحدة من أهم وأجرأ محاولات إصلاح التعليم في تاريخ مصر الحديث، لأنها لم تستهدف تغيير مناهج أو تطوير امتحانات فحسب، بل سعت إلى إعادة بناء العقل المصري، وتفكيك منظومة تعليمية ترسّخ فيها الحفظ والتلقين لعقود طويلة.

الدكتور طارق شوقي، الذي تولّى منصب وزير التربية والتعليم والتعليم الفني بين عامي 2017 و2022، لم يأتِ من فراغ. فهو أكاديمي مرموق، عمل أستاذًا للهندسة والرياضيات التطبيقية بجامعة إلينوي الأمريكية لمدة 13 عامًا، وشارك في مشروعات تعليمية دولية كبرى قبل عودته إلى مصر. وعندما تسلّم الوزارة، كان يحمل رؤية واضحة تستند إلى التجارب العالمية، وأهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة، وأجندة أفريقيا 2063، مع إدراك عميق لخصوصية المجتمع المصري.

منذ اللحظة الأولى، طرح شوقي سؤالًا صادمًا وبسيطًا في آن واحد: لماذا نُعلّم؟
هل نُعلّم من أجل الامتحان، أم من أجل بناء إنسان قادر على التفكير، والتحليل، والإبداع؟ من هنا وُلد مشروع التعليم عام 2018، كنقطة تحول جذرية من نظام يقوم على الذاكرة، إلى منظومة تركز على مهارات القرن الحادي والعشرين.

اعتمدت الفلسفة الجديدة على إعادة تصميم المناهج بشكل مترابط، بحيث يدرس الطفل الفكرة الواحدة عبر أكثر من مادة، ومن زوايا مختلفة، ما يعمّق الفهم ويُنمّي التفكير النقدي. لم تعد المعلومة معزولة أو جامدة، بل مرتبطة بالحياة والواقع. وفي الوقت ذاته، حرصت المناهج على تعزيز الهوية المصرية والانتماء الوطني، من خلال دمج التاريخ والقيم المجتمعية، حتى لا ينفصل الطالب عن ثقافته وبيئته.

وكان التحول الرقمي أحد أعمدة هذا المشروع. فقد تم توزيع أجهزة التابلت المدرسية، وإطلاق بنك المعرفة المصري، الذي يُعد أكبر مكتبة رقمية في الشرق الأوسط، ويضم أكثر من 120 قاعدة بيانات عالمية مجانية. هذا البنك كسر احتكار المعرفة، وفتح أبواب العلم أمام كل بيت مصري، من العاصمة إلى قرى الصعيد، وأسهم في تقليل الاعتماد على الدروس الخصوصية، وترسيخ ثقافة البحث والتعلم الذاتي.

ولأن التغيير الحقيقي لا يكتمل دون تغيير أدوات القياس، شهد نظام التقييم تحولًا جذريًا. انتقلت الامتحانات من قياس الحفظ إلى قياس الفهم، عبر اختبارات إلكترونية، وأسئلة مفتوحة الكتاب، وتصحيح إلكتروني يضمن قدرًا أكبر من الشفافية والعدالة، ويحد من التسريبات والغش.

وفي قلب هذه المنظومة، كان المعلم حاضرًا بقوة. فقد أُطلقت برامج تدريب واسعة شملت أكثر من مليون معلم، لإعادة تأهيلهم على أساليب التدريس الحديثة، وتحويل دورهم من ملقّن إلى مرشد وموجّه. كما وُضعت خطط لتعيين عشرات الآلاف من المعلمين الجدد لسد العجز المتراكم، وربط التدريب بالترقيات والحوافز.

ولم يُغفل المشروع المتفوقين والموهوبين، بل أولى لهم اهتمامًا خاصًا عبر التوسع في مدارس المتفوقين في العلوم والتكنولوجيا (STEM)، وربط التعليم بالبحث العلمي وسوق العمل، إيمانًا بأن نهضة الأمم تبدأ من رعاية عقولها المتميزة.

هذه الإصلاحات الضخمة، التي استهدفت نحو 22 مليون طالب و1.3 مليون معلم في أكثر من 50 ألف مدرسة، كانت مدعومة بقرض من البنك الدولي بقيمة 500 مليون دولار، واعتُبرت دوليًا تجربة غير مسبوقة في التحول الرقمي للتعليم بدولة نامية. وقد أشاد بها خبراء دوليون، واعتبرها البعض نموذجًا يمكن الاستفادة منه في دول أخرى.

على المستوى المجتمعي، انعكست هذه الرؤية في عودة الثقة – ولو جزئيًا – في التعليم الحكومي والتجريبي. كثير من الأسر، عن قناعة، أعادت أبناءها من التعليم الدولي إلى المدارس التجريبية، إيمانًا بمشروع وطني جاد، وثقة في عقلية إصلاحية ترى التعليم أداة لبناء الشخصية، لا مجرد شهادة.

ورغم ذلك، لم تكن الطريق ممهدة. واجهت التجربة مقاومة شرسة، وانتقادات حادة، بعضها مرتبط بصعوبات التنفيذ، وبعضها نابع من قوى تضررت مصالحها، وعلى رأسها شبكات الدروس الخصوصية. ومع نقص الإمكانات، وضخامة التحديات، لم يُمنح المشروع الوقت الكافي ليؤتي ثماره كاملة.

اليوم، وبعد سنوات من التجربة، يتزايد الشعور العام بأن ما جرى لم يكن مجرد تجربة وزير، بل مشروع دولة لم يُستكمل. التعليم، إلى جانب الصحة، هو الأساس الحقيقي لتقدم الأمم، وأي إضعاف لهما هو إضعاف مباشر لمستقبل الوطن. هدم التعليم ليس قدرًا، بل خيار، كما أن إنقاذه قرار سياسي ومجتمعي.

إن الدعوة إلى “إعادة الدكتور طارق شوقي” ليست حنينًا لشخص، بل نداءً لاستعادة رؤية إصلاحية شجاعة، تؤمن بأن بناء الإنسان هو الاستثمار الأهم، وأن أطفال مصر يستحقون تعليمًا يحرر عقولهم، لا يقيدها.

أعيدوا لنا الدكتور طارق شوقي…
أعيدوا لنا مشروعًا كان يسعى لبناء أمة، لا مجرد تغيير كتب.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى