مستقبل الثقافة في مصر: حلم طه حسين المؤجل منذ 87 عامًا

صدر كتاب “مستقبل الثقافة في مصر” للدكتور طه حسين في عام 1938، بعد معاهدة 1936 التي منحت مصر قدراً من الاستقلال عن الاحتلال البريطاني. كان الكتاب بمثابة حلم كبير لطه حسين، محاولة منه لتحديد هوية مصر الثقافية ورسم خط مستقبلي لها. كان يطرح في هذا الكتاب سؤالًا محوريًا:
“إحنا مين؟”، محاولًا ربط ماضينا بحاضرنا، ليقول لنا كيف سيكون شكلنا في المستقبل.
كان طه حسين يرى أن مصر ليست “شرقية” بالمعنى التقليدي، بمعنى أنها ليست كالهند أو الصين، بل هي جزء من حوض البحر المتوسط. كان العقل المصري أقرب إلى العقل الأوروبي اليوناني منه إلى أي شيء آخر، بسبب التاريخ العميق لمصر مع الإغريق. ومع ذلك، لم يكن طه حسين يريد لمصر أن تتخلى عن هويتها، ولا أن تذوب في حضارة الغرب، بل كان يحلم بهوية مصرية متميزة، تجمع بين أصالتها المصرية القديمة وارتباطها بالعالم المعاصر. قال في كتابه:
“إن التفكير في مستقبل الثقافة في مصر يجب أن يتم على ضوء ماضيها البعيد وحاضرها القريب.” كان طه حسين يؤكد أن هويتنا لم تنبُت من فراغ، بل هي مزيج من مصر القديمة وحضارات البحر المتوسط.
وأضاف في حديثه عن البحر المتوسط:
“إننا لا ننتمي إلى الشرق الأقصى، بل إلى حوض البحر المتوسط، حيث كانت مصر على الدوام جزءًا من هذه الحضارة التي صنعت العقل والمنطق.”
كان طه حسين يود أن يقول إن مصر يجب أن تتجه إلى العقل والتقدم، وأن تستلهم من أوروبا دون أن تتخلى عن طعمها المصري الأصيل.
رؤيته كانت واضحة: مصر يجب أن تكون لها هوية مستقلة، تتفاعل مع العالم دون أن تذوب فيه. وقد رآى أن الثقافة المصرية يجب أن تُبنى على أسس تعليمية حديثة تشمل العلوم والفنون واللغات، مع الحفاظ على الشخصية المصرية المستمدة من تاريخها العريق. كما قال:
“وأنا من أجل هذا مؤمن بأن مصر الجديدة لن تبتكر ابتكارًا، ولن تقوم إلا على مصر القديمة الخالدة، وأن مستقبل الثقافة في مصر لن يكون إلا امتدادًا صالحًا راقيًا لحاضرها.”
كانت رؤيته تؤكد أن التقدم لا يمكن أن يأتي إلا من الجذور، وليس بقطعها.
كان طه حسين يحلم بمصر متطورة، حيث التعليم الجيد يصل إلى جميع المواطنين، سواء كانوا أغنياء أو فقراء. كان يعتقد أن مصر بحاجة إلى تعليم يعزز الفلسفة والتاريخ واللغات، بالإضافة إلى الرياضة والفنون. لو كانت رؤيته قد تحققت، لكانت مصر اليوم تَفُوق دول العالم الكبرى، كما قال:
“لنكون لهم أندادًا، ولنكون لهم شركاء في الحضارة، خيرها وشرها، حلوها ومرها.”
كان طه حسين يتخيل مصر كأكبر مركز ثقافي في المنطقة، قادرًا على الارتقاء بذاتها ومواكبة العصر دون أن تتأخر أو تصبح تابعة. كان يرى أن التعليم المفتوح من شأنه أن يخرج أجيالًا قادرة على التفكير والإبداع، لا مجرد موظفين يؤدون مهامهم اليومية.
خلاصة القول، في هذا الكتاب، كان طه حسين يدعو إلى هوية مصرية عميقة الجذور في تاريخها المتوسطي، تستفيد من الحداثة مع الحفاظ على روحها الأصلية. لو تم سماع كلامه والعمل به، لكانت مصر اليوم نموذجًا للتقدم، وجسرًا يربط بين الشرق والغرب، بعيدًا عن التخلف الذي كان يحذر منه.
لم يكن الكتاب مجرد كلمات في الهواء، بل كان خطة حقيقية للمستقبل، ولا تزال أفكاره محل نقاش حتى يومنا هذا