مارسيل نظمى تكتب : ما يحزنني في رحيل داود عبد السيد

ما يحزنني حقًا في رحيل شخصيات مثل داود عبد السيد ليس أفلامه التي علقت بذاكرتي، ولا أفكاره التي أربكتني يومًا ثم تركتني أتعثر في فهمها بعد أن أُطفئت أنوار قاعة السينما. ما يؤلمني هو رمزية الغياب ذاته؛ غياب رجل أحب ما يفعل بصدق، واحترم فنه حتى المنتهى، وكان واعيًا بثقل أثره، لا يتخفف منه ولا يهرب.
إنه رحيل عقل كان يفكر، يربط الخيوط ببعضها، ويشتبك مع الأسئلة، ويصنع عملًا يريد أن يقول فيه شيئًا ما. قد نختلف معه، وقد نرفض بعض ما يطرحه، لكننا لا نستطيع إنكار أنه كان فكرًا حيًا حاضرًا، يسعى إلى المعنى ولا يساوم عليه.
تحرر داود عبد السيد، بقدر ما استطاع، من قيود كثيرة يفرضها المجتمع على الفكرة قبل أن تولد. قدم رؤى كان يعرف جيدًا عواقبها، وطرح وجهات نظر زادت رصيده جمالًا، وأثقلت مسيرته بالمعارك والاختلافات. ومع ذلك، ظل مستمرًا؛ يفكر، ويجرب، ويحب الفن كما لو كان قدره الوحيد.
أتذكر فيلمه رسائل البحر بوصفه مثالًا واضحًا على هذا المسار. خرجت من قاعة السينما محمّلة بأسئلة أكثر مما دخلت، أفكر فيما يختبئ خلف كل مشهد، وفي الفكرة التي تسللت بهدوء بين اللقطات. وحين سألني أصدقائي وقتها عن قصة الفيلم، عجزت عن جمعها في حكاية واحدة، ولم أعرف كيف أرويها أو أختصرها في كلمات بسيطة.

كل ما استطعت قوله آنذاك أن هذا الفيلم يحتاج إلى مشاهدات متعددة، وإلى صبر، وإلى استعداد لأن نتقبل فكرة جريئة يطرحها دون أن يفرضها. وهذا، في جوهره، كان فن داود عبد السيد: فنًا لا يمنحك إجابات جاهزة، بل يتركك في مواجهة الأسئلة.
وداعًا المخرج والمؤلف داود عبد السيد؛ رحل الجسد، وبقي الفكر شاهدًا على صدق التجربة وعمقها