رحيل الأنبا باخوميوس.. البطريك غير المتوج وقبطان السفينة في العاصفة

رحل اليوم من كان قلبًا نابضًا بالحكمة، عقلًا ممتلئًا بالاتزان، وروحًا تتجلى فيها ملامح التسامح المسيحي الأصيل. رحل الرجل الذي حمل الكنيسة في أحلك لحظاتها، وسار بها وسط العواصف، فلم يَهُن، ولم يخف، ولم يتردد. إنه الأنبا باخوميوس، شيخ مطارنة الكنيسة الذي لم يكن مجرد مطران، بل كان صخرة ارتكزت عليها الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في واحدة من أشد فترات التاريخ المصري اضطرابًا.
يا للحزن الذي يلف القلوب! فقدنا اليوم قبطان السفينة الذي أبحر بها إلى بر الأمان، في وقتٍ تكالبت فيه الأمواج العاتية، واختلطت فيه المؤامرات بالرغبة في اغتيال هوية الوطن، وسعى المغرضون إلى دفع مصر نحو المجهول، لكن في وسط ذلك الظلام، وقف هذا الرجل الجليل شامخًا، مستندًا إلى إيمانه العميق، مدركًا أن الكنيسة ليست مجرد حجارة وأبنية، بل هي قلوب أبنائها التي آمن بأنها ستظل مخلصة للوطن مهما كان الثمن.
لم يكن الأنبا باخوميوس مجرد قائم مقام للبطريرك، بل كان “البطريرك غير المتوّج”، الذي حمل عصا القيادة بيدٍ من نور، فاحتضن الجميع بمحبة أبوية نادرة، وساس الكنيسة بحكمة القائد الهادئ، فكان ملجأً للرعية، وسندًا للوطن، وناصحًا أمينًا للدولة في زمن كانت فيه مصر تحاول أن تستعيد ذاتها من براثن الفوضى.
ثمانية أشهر كانت كافية ليُظهر معدنه النفيس، فقاد الكنيسة كبحّار قدير وسط بحر متلاطم الأمواج، لم يُفزعْهُ تلاعب التيارات الظلامية، ولم تهتز يداه وهو يمسك بدفة السفينة، بل ظل ثابتًا، متيقظًا، عارفًا أن الكنيسة باقية، وأن الوطن لن يسقط، فكان في مقدمة الصفوف، واقفًا خلف القوات المسلحة، داعمًا لمؤسسات الدولة، مؤمنًا بأن الكنيسة ليست كيانًا منفصلًا عن الوطن، بل جزءٌ لا يتجزأ منه.
واليوم، ونحن نودّعه بقلوب يعتصرها الحزن، لا نرثيه فقط، بل نقف لنشهد أنه كان رجلًا استثنائيًا، شخصية فريدة لن تتكرر، أحد القلائل الذين يُنحتون في ذاكرة التاريخ بأحرفٍ من نور.
إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، وإن كلمات العزاء مهما عظمت لن تفي هذا الرجل حقه. خالص العزاء لقداسة البابا تواضروس الثاني، الذي فقد اليوم استاذه، وقائده الذي حمل معه هم الكنيسة قبل أن ينال هو مقعد البطريركية.
وداعًا أيها الحكيم، أيها القائد، أيها القديس الذي احتضن الجميع. غادرت الأرض، لكن روحك ستبقى في الكنيسة التي أحببتها، وفي الوطن الذي دافعت عنه، وفي القلوب التي علمتها أن الإيمان لا يعرف الخوف، وأن الحب أقوى من العواصف، وأن الحقيقة دائمًا تنتصر، ولو بعد حين.