الدماء الطاهرة

رودينا… زهرة في عامها الأول تدهسها عجلات الإهمال في شارع مصطفى النحاس
كتب: صموئيل العشاي
لم تكن تعلم “رودينا”، ابنة الثمانية عشر ربيعًا، أن صباح ذلك اليوم سيكون آخر لحظاتها في الدنيا، وآخر مرة تنظر فيها لوجه أمها قبل أن تغلق الحياة بابها للأبد.
كانت طالبة في كلية الألسن – سنة أولى – لم تكمل شهرها الأول، تحمل أحلامها في حقيبة ظهر صغيرة، تُمليها برائحة الكتب، واللهفة لبدء الطريق الطويل نحو المستقبل.
في شارع مصطفى النحاس، أحد أكثر الشوارع ازدحامًا في قلب مدينة نائمة على أنين الصامتين، كانت رودينا تعبر الطريق كأي طالبة جامعية معتادة على الزحام، لكنها لم تكن تعلم أن أتوبيسًا أزرق بلا رحمة يقترب منها كوحش لا يعرف التوقف.
ضربة واحدة… صدمة عنيفة… صرخة مكتومة… ثم صمت.
جسد رودينا الرفيع سقط على الإسفلت، والدماء الطاهرة سالت منه، تشهد على جريمة ليست فقط في حقها، بل في حق مجتمع يغرق في التجاهل.
فرّ السائق هاربًا، بلا حتى أن ينظر خلفه، وكأن دهس الأرواح صار أمرًا عاديًا لا يتطلب توقفًا أو تأنيب ضمير.
المشهد كان أقسى من أن يُحتمل: لا أحد حاول اللحاق به، لا رجل تحرك من بين المارة، لا صوت ارتفع مطالبًا بالحق، وكأن الشارع كان فاقدًا للرجولة والرحمة في لحظة واحدة.
وما هو أبشع من الحادث، أن هاتف رودينا سُرق وهي ممددة على الأرض بلا روح. يد آثمة امتدت لتسرق جهازًا لا قيمة له أمام روح فقدناها، وكأن الموت نفسه لم يُرهب من في المكان، ولم يُوقظ ذممهم.
أمها في البيت كانت تنتظر مكالمة تخبرها أن ابنتها وصلت الكلية بسلام.
زميلاتها كنّ يحضرن المحاضرات، بينما مقعد رودينا ظلّ خاليًا، تمامًا كما سيكون قلب أمها خاليًا بعدها إلى الأبد.
رودينا لم تمت فقط، بل قُتلت مرّتين: مرة بعجلات الأتوبيس، ومرة بإهمال الشارع، وصمت الناس، وجُبن المجتمع.
أي قلب هذا الذي لا يرتجف حين يرى دم فتاة تُزهَق هكذا؟ وأي أعين لا تدمع حين تقرأ أن هاتفها سُرق وهي جثة؟!
الدماء الطاهرة ما زالت على الأسفلت، ربما تغسل بعضًا من قسوة المدينة، وربما تترك أثرًا لا يُمحى، يُذكّر الجميع بأن رودينا كانت هنا… وأن روحها لا تزال تبحث عن حقها.
لا كاميرات أوقفت الجريمة، لا شرطة قبضت على القاتل، لا أحد أعاد الهاتف أو أنقذ الكرامة.
رودينا الآن في السماء، حيث لا أتوبيسات تدهس الأحلام، ولا قلوب تسرق الموتى.
رحمة الله عليكِ يا رودينا.
لقد دفنتنا الحياة معكِ، ودفنت حياء المدينة.