المحكمة الدستورية العليا تُنصف موظفي مصر: لا فصل للموظف دون إنذار أو إتاحة الفرصة لتقديم عذر

بقلم صموئيل العشاي :

في حكم يُعد من العلامات الفارقة في مسيرة القضاء الدستوري المصري، أصدرت المحكمة الدستورية العليا، برئاسة المستشار الجليل بولس فهمي إسكندر، رئيس المحكمة، في جلستها المنعقدة يوم السبت الموافق 8 مارس 2025، حكمًا تاريخيًا يعيد الاعتبار لموظفي الدولة، ويؤكد أن الفصل من الوظيفة بسبب الانقطاع عن العمل دون إنذار مسبق أو تمكين الموظف من إبداء عذره، يُعد إجراءً غير دستوري، ينتهك مبادئ العدالة والكرامة الإنسانية التي نص عليها الدستور المصري.

جاء هذا الحكم في الدعوى رقم 99 لسنة 43 قضائية “دستورية”، المحالة من المحكمة الإدارية لرئاسة الجمهورية أثناء نظرها القضية رقم 4090 لسنة 65 قضائية، والتي أقامها الموظف أشرف صبحي عبد الرازق فرج، ضد كل من محافظ الجيزة ومدير مديرية التنظيم والإدارة بالمحافظة، طاعنًا على قرار فصله من وظيفته بسبب انقطاعه عن العمل ثلاثين يومًا غير متصلة.

أصل النزاع: مأساة موظف تحولت إلى قضية دستورية

بدأت وقائع الدعوى حينما أصيب المدعي بعارض صحي منعه من الانتظام في العمل، فاضطر للانقطاع عن أداء مهامه خلال فترات متفرقة، قدم بشأن بعضها تقارير طبية، بينما لم يتمكن من تقديم أعذار رسمية عن البعض الآخر في الوقت المناسب بسبب ظروفه الصحية. وبعد أن تماثل للشفاء وعاد إلى عمله، فوجئ بقرار فصله من الخدمة بحجة الانقطاع.

لم يجد الموظف مفراً من اللجوء إلى القضاء الإداري، مطالبًا بإلغاء القرار الجائر، مستندًا إلى أن نص المادة 69 من قانون الخدمة المدنية رقم 81 لسنة 2016، الذي استند إليه القرار، جاء قاصرًا عن حماية حقه الدستوري في الدفاع عن نفسه وفي الإنصاف الإداري، كونه لم يشترط إنذاره قبل الفصل، ولم يمنحه فرصة لتقديم أعذاره، وهو ما يخالف صراحة ما نص عليه الدستور من ضمانات للعدالة والمساواة والكرامة.

جوهر الحكم: الدستور فوق القانون

بعد الإحالة من المحكمة الإدارية، نظرت المحكمة الدستورية العليا النص المطعون بعدم دستوريته، وهو البند (6) من المادة 69 من قانون الخدمة المدنية، والذي ينص على اعتبار انقطاع الموظف عن العمل ثلاثين يومًا غير متصلة خلال السنة سببًا لفصله من الخدمة.

ورأت المحكمة أن هذا النص – بصيغته الحالية – يتغافل عن أمرين جوهريين لا يمكن تجاهلهما في أي نظام قانوني حديث:
1. عدم اشتراط إنذار الموظف كتابة قبل توقيع الجزاء النهائي بالفصل.
2. عدم منحه فرصة عادلة لإبداء عذره المشروع عن فترات الانقطاع.

وأكدت المحكمة أن تجاهل هذه الضمانات يهدر مبادئ جوهرية كرسها الدستور المصري، وعلى رأسها مبدأ المساواة، والعدالة، وضمان الحق في العمل، وعدم التعسف في استخدام السلطة، مما يجعل النص المذكور مشوبًا بشبهة عدم الدستورية.

مواد الدستور التي استند إليها الحكم

استندت المحكمة في حكمها إلى عدة مواد من الدستور المصري لسنة 2014 وتعديلاته، أبرزها:
• المادة (4): التي تؤكد خضوع الدولة للدستور وسيادة القانون.
• المادة (9): التي تلزم الدولة بتحقيق تكافؤ الفرص لجميع المواطنين.
• المادة (12): التي تنص على حماية الدولة لحق العمل.
• المادة (13): التي توجب ضمان الأمان الوظيفي وعدم الفصل التعسفي.
• المادة (14): التي تساوي بين المواطنين في تولي الوظائف العامة.
• المادة (53): التي ترفض التمييز بين المواطنين.
• المادة (94): التي تنص على أن سيادة القانون أساس الحكم في الدولة.

وأوضحت المحكمة أن الوظيفة العامة ليست منحة من الدولة تُسحب في أي وقت، بل هي حق دستوري يكتسبه الموظف وفقًا للقانون، ويجب ألا يُنتزع منه دون إجراءات تضمن له حق الدفاع والإنصاف.

مبدأ الإنذار كشرط جوهري للفصل

أشارت المحكمة إلى أن القوانين العمالية المصرية اشترطت – في حالات مشابهة – إخطار العامل قبل فصله، ومنحه فرصة لتقديم أسباب تغيبه أو انقطاعه عن العمل، فلماذا يتم حرمان موظفي الدولة من ذات الضمانة؟! بل إن هذا التمييز بين العاملين في الجهاز الإداري للدولة ونظرائهم في القطاع الخاص يفتقر إلى الأساس الموضوعي، ويخالف مبدأ المساواة المنصوص عليه في الدستور.

رفض الدفع بعدم القبول

هيئة قضايا الدولة حاولت الدفع بعدم قبول الدعوى، استنادًا إلى صدور حكم سابق في دعوى دستورية تخص نفس المادة، لكن المحكمة رفضت هذا الدفع، موضحة أن الدعوى الحالية تتعلق بجانب مختلف تمامًا من النص، هو القصور في الضمانات الإجرائية قبل توقيع جزاء الفصل، وليس في مضمون الفعل ذاته (الانقطاع).

رسالة المحكمة: لا عدالة دون ضمانات

أوضحت المحكمة في حيثيات حكمها أن ضمانات العدالة لا تقتصر فقط على الجوانب الموضوعية، بل تمتد أيضًا إلى الضمانات الإجرائية، مثل الحق في الإخطار، والحق في الدفاع، والحق في العرض على جهة محايدة قبل توقيع الجزاء.

ولفتت إلى أن الموظف العام لا يقل شأنًا عن العامل في القطاع الخاص، بل إن مسؤوليته أكبر، ومن ثم فإن توفير الحماية القانونية له ضرورة دستورية، وليس ترفًا تشريعيًا.

الآثار العملية للحكم: كوابح أمام التعسف الإداري

بهذا الحكم، تكون المحكمة الدستورية قد وضعت كوابح قانونية أمام الجهات الإدارية في استخدام سلطاتها التأديبية، وفرضت إلزامًا قانونيًا بأن كل قرار فصل بسبب الانقطاع يجب أن يسبقه إنذار، ويعقبه تمكين الموظف من تقديم ما يثبت عذره.

وهذا يعني أن آلاف القرارات الإدارية التي قد تصدر مستقبلاً بالفصل، إذا خالفت هذه القاعدة، ستكون عرضة للبطلان.

تحية للمستشار بولس فهمي: قاضٍ يعرف أن العدالة ليست نصًا جامدًا بل روح دستورية

لا يمكن الحديث عن هذا الحكم دون الإشادة برؤية وإدارة المستشار بولس فهمي إسكندر، رئيس المحكمة الدستورية العليا، الذي استطاع خلال السنوات الأخيرة أن يعيد للمحكمة دورها الأصيل كحامي للدستور وصون لكرامة المواطنين، وأن يرسخ قاعدة أن العدالة ليست فقط في النصوص، بل في الروح التي تنبض بها تلك النصوص، وفي إنصاف من لا صوت لهم.

ختامًا: لا حماية للوظيفة العامة إلا بسيادة القانون

إن هذا الحكم التاريخي لا يمثل فقط انتصارًا لموظف عادي ظلمته الظروف، بل يمثل أيضًا رسالة قوية إلى المجتمع والدولة بأن مصر الجديدة لا تقبل الظلم، وأن القضاء الدستوري بها قادر على تصحيح المسار، متى حادت القوانين عن المبادئ العليا للدستور.

وهذا الحكم سيُخلد كواحد من المحطات البارزة في تاريخ القضاء المصري، حين قررت المحكمة الدستورية العليا أن الإنسان فوق الإجراءات، وأن الكرامة فوق النصوص الناقصة، وأن العدالة ليست اختيارًا بل التزامٌ دستوريٌّ لا يُفرط فيه.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى