مرقس حنا باشا… البطل الذي أنقذ كنوز توت عنخ آمون من النهب وأعاد لمصر حقها المسلوب

مرقص باشا حنا الذي انقذ كنوز توت عنخ آمون من اليرقه

في صفحات التاريخ المصري، تتوارى أسماء كثيرة خلف ظلال النسيان، رغم أن أصحابها قدموا لوطنهم ما يستحق أن يُكتب بحروف من نور. إنهم رجال لم يبحثوا عن المجد، بل صنعوه، ولم يسعوا خلف التصفيق، بل حملوا على عاتقهم مسؤولية الحفاظ على ما تبقى من تراث أجدادهم. ومن بين هؤلاء الأبطال الذين طواهم الزمن ولم ينصفهم التاريخ، يقف مرقس حنا باشا، ذلك الرجل الذي تصدى لمحاولات نهب أعظم اكتشاف أثري في القرن العشرين: مقبرة توت عنخ آمون، وأبى إلا أن تبقى كنوز الفرعون الذهبي ملكًا لمصر، شامخة في قلبها، شاهدة على عظمتها.

حينما أضاءت المقبرة ظُلمة التاريخ… وكادت أن تُنهب

في عام 1922، اهتزت الأوساط الأثرية في العالم كله بخبر اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون، ذلك الفرعون الشاب الذي ظل قبره مغلقًا لآلاف السنين، محتفظًا بكنوزه كما تركها أجداده. كان الإنجليزي هوارد كارتر، الممول من اللورد كarnarvon، هو صاحب هذا الكشف العظيم، لكنه لم يكن يرى في المقبرة مجرد كنز أثري، بل غنيمة يجب أن تُؤخذ، كما أُخذت مئات القطع الأثرية المصرية من قبل، لتزين متاحف أوروبا وأمريكا.

منذ اللحظة الأولى، تعامل كارتر مع المقبرة وكأنها ملكٌ خاص له، وأصدر قرارًا بمنع المصريين من دخولها، وكأنها قطعة من ممتلكات الإمبراطورية البريطانية! كانت هناك نية واضحة ومبيتة لتهريب الكنوز، بعيدًا عن أعين الدولة المصرية، مستغلين السيطرة البريطانية على مصر آنذاك.

لكن في هذه اللحظة الحاسمة، وبينما كانت أنظار العالم تتجه إلى وادي الملوك بلهفة، برز رجل واحد، شامخًا كالأهرامات، لا يخشى تهديدات الاحتلال، ولا يخضع لضغوط القوى الأجنبية. إنه مرقس حنا باشا، وزير الأشغال آنذاك، الذي قرر أن يضع حدًا لهذا العبث، وأن ينتزع حق مصر المسلوب، ولو كرهت بريطانيا كلها ذلك.

مرقس حنا باشا… الرجل الذي قال “لا” للإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس

كان مرقس حنا رجلًا ذا رؤية ثاقبة وقلب مفعم بالوطنية، ولم يكن مستعدًا لرؤية تاريخ أجداده يُنهب أمام عينيه دون أن يتحرك. أصدر قرارات صارمة، لم تعجب الإنجليز، لكنها حمت كنوز الفرعون الذهبي من السرقة والتبديد.

أهم الخطوات الجريئة التي اتخذها مرقس حنا باشا:

1. فرض حراسة مشددة على المقبرة: لم يترك بابها مفتوحًا للغرباء، بل أصدر أوامره بنشر ضباط مصريين مدججين بالسلاح عند المدخل، مهمتهم تفتيش أي شخص يدخل أو يخرج، حتى لو كان هوارد كارتر نفسه.

2. توثيق كل قطعة أثرية: ألزم فريق التنقيب بتسجيل وتصوير كل تحفة يتم العثور عليها، وأمر بإنشاء سجلات دقيقة لكل أثر، بحيث لا تخرج قطعة واحدة من المقبرة إلا بمعرفة الحكومة المصرية.

3. منع تهريب الآثار إلى الخارج: في الوقت الذي كانت فيه الصحافة البريطانية تصرخ غضبًا، شدد حنا الحراسة، ورفض السماح لأي شخص أجنبي بأخذ شيء من الكنوز، إلا بتصاريح رسمية مختومة من الدولة المصرية.

4. نقل الآثار إلى المتحف المصري في القاهرة: لم يكتفِ بحماية المقبرة، بل قرر أن يتم نقل كل المقتنيات تحت إشراف الشرطة المصرية إلى المتحف المصري، حيث ستكون في أمان، بعيدًا عن أيادي النهب والاستغلال.

معركة ضد الاحتلال البريطاني… وضد الإعلام الغربي

لم تكن قرارات مرقس حنا تمر مرور الكرام، فقد كانت بمثابة تحدٍّ مباشر للإمبراطورية البريطانية، التي كانت تحتل مصر وتعتبرها ولاية تابعة لها. الصحافة البريطانية شنت هجومًا شرسًا عليه، متهمة إياه بأنه “يعوق البحث العلمي”، لكنه لم يلتفت لهذه الحملات المغرضة، بل واصل مهمته بإصرار.

أما الصحفيون البريطانيون، فقد ثاروا لأنهم مُنعوا من دخول المقبرة بحرية، وكأنها إرثٌ أوروبي، وليس كنزًا مصريًا خالصًا. ولكن الباشا لم يرضخ، ولم يتراجع، بل صمد بقوة أمام غطرسة المستعمرين، وكتب اسمه في سجل الشرف الوطني بأحرف من ذهب.

اليوم… لماذا لا نُكرِّم هذا الرجل؟

رغم مرور أكثر من 100 عام على هذا الاكتشاف العظيم، ورغم أن اسم هوارد كارتر يُذكر في كل مكان، إلا أن اسم مرقس حنا باشا غائب عن المشهد، كأنه لم يكن هو السد المنيع الذي وقف في وجه السرقة.

لماذا لا نجد اسمه منقوشًا في كتب التاريخ؟ لماذا لا يُدرَّس دوره للأجيال الجديدة؟ لماذا تُعرض كنوز توت عنخ آمون في المتحف المصري، دون أن يكون هناك لوحة شرف تحمل اسم الرجل الذي أنقذها من الضياع؟

إنها مسؤوليتنا اليوم أن نُنصف هذا البطل، وأن نعيد الاعتبار إلى الرجل الذي لم يُهادن، ولم يساوم، بل رفع راية مصر في وقت كان فيه الاحتلال يظن أن هذه البلاد قد استسلمت للأمر الواقع.

مرقس حنا باشا… تحية إجلال ووفاء لك، لأنك لم تفرط في حق مصر، ولم تسمح بأن يُباع مجد الفراعنة في المزادات العالمية. ستظل في ذاكرة الوطن، وإن نسيك الإعلام، فإن صفحات التاريخ لن تُغلق دون أن تُسجل اسمك بكل فخر وعزة.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى