قادتني قدماي بعد زيارة طبيبي في شارع قصر العيني إلى شوارع المنيرة القديمة. قلت: أتمشى ربما أخفف حدة توتري العصبي وآلامي الجسدية التي أرهقتني طوال الفترة الماضية، خاصة أن كلام الطبيب لم يكن مبهجًا. فكان المشي بلا هدى ولا خطة أفضل الوسائل لتهدئتي على الأقل نفسيًا.
فجأة، وجدت نفسي أمام باب مدرسة الشيخ علي يوسف الابتدائية للتعليم الأساسي. وقفت مندهشة، كيف وصلت إلى هذا المكان، خاصة هذا المكان؟ ابتسمت في سري وانهمرت نافورة ذكريات. لقد جمعتني بهذا المكان حكايات غريبة، وجرى فيه وعلى مقربة منه أحداث عجيبة ومفاجئة وغير متوقعة، فكان بحق كما أطلقت عليه وقتها “يوم أغبر”، آه والله.
كان بداية عام دراسي جديد سنة 1999 وكان د. حسين كامل بهاء الدين وزيرًا للتربية والتعليم، وعبد الرحيم شحاتة محافظًا للقاهرة. كانا في بؤرة الأحداث صنعاها وعشناها معهما. كان ملف التعليم الشائك قد أخذ من عمري عشرين عامًا كاملة، إن لم يزد عن ذلك، قضايا وموضوعات، زيارات وجولات، فعاليات وتفاعلات، عبر مدارس ومعاهد ومؤسسات تعليمية ومراكز بحثية ودوواين مديريات في المحافظات، وفي القلب منها المقر الرسمي لوزراء التربية والتعليم بجوار ضريح سعد زغلول، والذي كان سابقًا سراي الأميرة فائقة ابنة الخديو إسماعيل بالتبني وتحول وبعض قصور المنطقة كمقار لثلاث وزارات هي التربية والتعليم، والإنتاج الحربي “سراي الأميرة توحيدة”، وهيئة التخطيط العمراني “سراي الأميرة جميلة هانم”.
ابتسمت ابتسامة كبيرة ورفعت عيني أنظر للجزء الظاهر من مبنى المدرسة خلف الباب المغلق، تجددت فورًا الذكريات كما لو كانت تحدث أمامي الآن.
عشرون عامًا أمضيتها مسؤولة عن ملف التعليم لوكالة أنباء الشرق الأوسط. كان يومًا باكيًا حين فرض عليّ تولي مسؤولية هذا الملف الصحفي الذي كان مرفوضًا شكلًا وموضوعًا من بقية الزملاء. كنت الوحيد الذي هدأ من روعي وشجعني على قبول التكليف. لم يكن أمامي بديل آخر وشعرت أني نزلت درجة مهنية بتركي العمل في الملف السياسي والحزبي الذي تميزت وأجدت فيه منذ 1980، وذلك بسبب صعوبة العودة للملف السياسي ولدي طفلان صغيران بالمدارس لهم الأولوية بدون شك على عملي.
كانت سنة 1993 عامًا فاصلًا بين مرحلتين في حياتي المهنية والصحفية، وكنت أسخر من نفسي حينها بأنني محررة أخبار “أبجد هوز” أو على طريقة نجيب الريحاني “نصلح كراريس”. واعتقدت أن دوري سينحصر في متابعة تسكين التلاميذ في بدء العام الدراسي الجديد، ورصد بكاءهم لابتعادهم عن أحضان أمهاتهم لأول مرة، أو معارك استلام الكتب المدرسية وسداد المصروفات، أو تجمع الأهالي أمام أبواب المدارس لتوصيل أو اصطحاب أبنائهم أو متابعة امتحاناتهم.
كنت الوحيد الذي خفف عني عبء هذا الملف من البداية بتأكيدك أنني أستطيع أن أجيد في هذا الملف لأن من يتقن الصعب ينجح في البسيط، مؤكدًا أن خبرتي الصحفية والاجتماعية والإنسانية ستجعلني أتميز في هذا الملف الذي رفضه الجميع بما أملكه من مقومات الجرأة والخبرة وحب العمل.
لقد تحققت نبوءتك يا رجائي، وصار ملف التعليم بين يدي أكثر من 20 عامًا صُلت فيه وجُلت وتوسعت وأبدعت وكتبت ودخلت معارك وساهمت في نشر الوعي والدفاع عن البسطاء وحل مشاكل كل من لجأ لي. أعطيت بسخاء، وبذلت جل طاقتي وقدرتي وصدقي على أن أكون مختلفة وناجحة.
قصة طويلة ليس لها نهاية بدأت بعد عودتنا من اليمن وقررت حينها أن أستقيل من العمل وأقضي بقية حياتي في البيت أربي العيال، وأزور الجيران وأطلع رحلات، وأذهب إلى النوادي وأقضيها لعب ومرح وبساطة. لكنك اعترضت بشدة، وكانت حجتي صعوبة ترك الأولاد في مايو والذهاب للشغل يوميًا وبيننا مسافات طويلة. وإذا كان يقال، عند جهينة الخبر اليقين، فأنا كنت أردد:
وعند رجائي الحل الأكيد.
.. وللحديث بقية