الصهيونية المسيحية، هذا المصطلح الذي يثير الكثير من الجدل في الأوساط الدينية والسياسية، هو نتاج سياقات تاريخية ودينية معقدة تداخلت فيها الأبعاد اللاهوتية مع الطموحات السياسية. نشأت الفكرة في أجواء التحولات الدينية الكبرى التي شهدتها أوروبا أثناء الثورة البروتستانتية في القرن السادس عشر بقيادة مارتن لوثر، لكنها أخذت أبعادًا أعمق وأكثر خطورة مع مرور الزمن، خصوصًا في القرن التاسع عشر، حين ارتبطت بشكل وثيق بالمشروعات السياسية التي هدفت إلى التخلص من اليهود في أوروبا من خلال دفعهم إلى الهجرة، تمهيدًا لإقامة وطن قومي لهم في فلسطين.
هذه الحركة استندت في تبرير أفكارها إلى تحريف صارخ للنصوص المقدسة من الكتاب المقدس، مما جعلها تتجاوز الحدود الروحية للدين المسيحي لتتحول إلى أداة سياسية تخدم أهدافًا بعيدة كل البعد عن التعاليم الإلهية. في هذا السياق، أصبحت الصهيونية المسيحية إحدى أكثر الظواهر التي واجهت رفضًا واسعًا من قِبَل الكنائس التقليدية، التي اعتبرت هذه الحركة انحرافًا عن القيم المسيحية الأصيلة التي تتمحور حول المحبة، التسامح، والسلام.
المسيحية: دعوة إلى المحبة والسلام وليست وسيلة للصراعات
المسيحية، كما علّمها السيد المسيح، هي رسالة تحمل في جوهرها محبة شاملة وسلامًا عميقًا بين البشر دون أي تمييز. السيد المسيح جاء لينشر رسالة تدعو إلى الوحدة بين الشعوب وتجاوز الحواجز العرقية والدينية. ولكن على النقيض تمامًا، جاءت الصهيونية المسيحية لتقلب هذه المبادئ رأسًا على عقب، حيث تحوّل الدين إلى وسيلة لتبرير الصراعات وتعزيز الانقسامات.
هذه الحركة لم تكتفِ بتحريف النصوص المقدسة، بل ذهبت إلى استغلالها بطريقة موجهة لدعم الاحتلال الإسرائيلي والسياسات التي تسعى إلى تقسيم الشعوب ونهب أراضيها. وبذلك، فإنها تمثل انحرافًا خطيرًا عن تعاليم السيد المسيح، الذي دعا إلى نصرة المظلومين وإرساء العدالة بين جميع البشر.
إن التناقض بين رسالة المسيحية الحقيقية التي تسعى إلى بناء الجسور وتعزيز المصالحة، وبين أهداف الصهيونية المسيحية التي تغذي الصراعات السياسية، يجعل هذه الحركة مرفوضة من قبل غالبية الكنائس الكبرى حول العالم. الكنائس الكاثوليكية، الأرثوذكسية، وحتى العديد من الكنائس الإنجيلية، أكدت مرارًا وتكرارًا أن استخدام الدين لتبرير الاحتلال يتعارض مع روح المسيحية التي تدعو إلى السلام والمحبة.
الكنائس الإنجيلية وموقفها الرافض للصهيونية المسيحية
على الرغم من أن الصهيونية المسيحية تجد دعمًا بين بعض المجموعات الإنجيلية الصغيرة في الولايات المتحدة، فإن الغالبية العظمى من الكنائس الإنجيلية حول العالم تقف موقفًا حازمًا ضد هذه الأفكار. ترفض هذه الكنائس التفسير الحرفي والمتحيز للنصوص المقدسة الذي تعتمده الصهيونية المسيحية، وتؤكد أن هذه الحركة لا تعبر عن القيم المسيحية الحقيقية، بل تسعى إلى تحقيق أهداف سياسية بحتة لا تمت بصلة إلى الروحانية المسيحية.
المشكلة تكمن في أن هذه المجموعات الصغيرة في الولايات المتحدة تمتلك نفوذًا كبيرًا بفضل أدواتها الإعلامية والاقتصادية والسياسية، مما يمنحها قدرة واسعة على التأثير في صنع القرار. هذا النفوذ لا يعبر عن قوة روحية حقيقية، بل هو انعكاس لعلاقات سياسية واقتصادية تخدم مصالح محددة، على حساب القيم المسيحية الأصيلة ومعاناة الفلسطينيين، سواء كانوا مسيحيين أو مسلمين.
إن هذه الممارسات ليست مجرد تحريف للنصوص المقدسة، بل هي أيضًا تشويه لصورة المسيحية أمام العالم، حيث تُظهر الدين وكأنه أداة تخدم الاحتلال بدلًا من أن يكون دعوة لتحقيق السلام العادل والعيش المشترك.
الكنيسة القبطية والبابا شنودة: موقف ثابت رغم التحديات
كانت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، بقيادة البابا شنودة الثالث، من أبرز الكنائس التي اتخذت موقفًا حازمًا ضد الصهيونية المسيحية. البابا شنودة الثالث كان واضحًا في رفضه لأي محاولات لتسييس الدين أو استغلال النصوص المقدسة لتبرير الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية. هذا الموقف الجريء لم يكن مجرد تعبير عن رأي ديني، بل كان تعبيرًا عن التزام أخلاقي وإنساني بحقوق الشعب الفلسطيني ورفض الظلم بجميع أشكاله.
هذا الموقف الشجاع كلف الكنيسة القبطية الكثير، حيث تعرضت لضغوط وانتقادات من جهات داعمة للصهيونية المسيحية. لكن إصرار البابا شنودة على التمسك بالمبادئ المسيحية الأصيلة جعل من الكنيسة القبطية نموذجًا يحتذى به في مقاومة الظلم والدفاع عن القيم الإنسانية.
لقد كان موقف البابا شنودة تعبيرًا عن رسالة المسيح الحقيقية، التي تدعو إلى نصرة المظلومين وتحقيق العدالة والسلام، وليس التواطؤ مع الظلم أو تسويغه. الكنيسة القبطية بهذا الموقف أكدت أنها تقف إلى جانب جميع الشعوب المضطهدة، بغض النظر عن دينها أو جنسها، وأنها ترفض استخدام الدين كأداة للصراعات السياسية.
تأثير الصهيونية المسيحية على المسيحيين العرب
الصهيونية المسيحية ليست مجرد تهديد لسلام العالم، بل تمثل خطرًا مباشرًا على الوجود المسيحي في الشرق الأوسط. المسيحيون العرب، الذين يشكلون جزءًا لا يتجزأ من النسيج الثقافي والديني للمنطقة، يعانون بشدة من السياسات التي تدعمها الصهيونية المسيحية. هذه السياسات أدت إلى تهجير أعداد كبيرة من المسيحيين الفلسطينيين، وحرمتهم من دورهم التاريخي كجسر للتعايش بين مختلف الأديان والثقافات.
بدلاً من دعم حقوق المسيحيين العرب والدفاع عن وجودهم في أرضهم، تركز الصهيونية المسيحية على دعم إسرائيل بشكل مطلق، متجاهلة معاناة الفلسطينيين بشكل عام. هذا الموقف يعكس تناقضًا صارخًا بين تعاليم السيد المسيح التي تدعو إلى نصرة المظلومين وتحقيق العدالة، وبين الأجندات السياسية التي تروج لها هذه الحركة.
الصهيونية المسيحية: خطر عالمي وتشويه للمسيحية
الصهيونية المسيحية بتفسيرها الضيق والمشوه للنصوص المقدسة تمثل خطرًا على الاستقرار العالمي. دعمها الأعمى لإسرائيل وسياساتها التوسعية يؤدي إلى تعميق النزاعات في الشرق الأوسط، ويعيق أي جهود حقيقية لتحقيق السلام.
بدلاً من أن تكون المسيحية قوة دافعة نحو العدالة والسلام، تحاول هذه الحركة استخدامها كغطاء لتبرير الاحتلال والانقسام. لكن رسالة المسيح الحقيقية، التي تدعو إلى المحبة والتسامح والعدل، تظل أقوى من محاولات التحريف، وستبقى المسيحية دعوة أبدية لتحقيق السلام بين البشر بعيدًا عن استغلال الدين لتحقيق المكاسب السياسية.
استخدام الوازع الديني في الوصول للأهداف الغير معلنة هو آفة من قديم الأزل .
يدفع ثمنه دوما ودائما أصحاب القيم والمبادئ والأبرياء من العامة الأميين ثقافيا ودينيا .
فالحركات العنصرية التي تسعي دوما ودائما لتحقيق مكاسب استيطانية ( بدءا من الحملات الصليبية علي مصر مرورا بحركة الإخوان المسلمين اسما وليس فعلا بغرض الوصول للحكم وتحقيق الاهداف الغير معلنه والتي تخدم الخطط الصهيونية الاستيطانية ونهاية بالحركة موضوع المقال )
مصيرها إلي زوال.
فالقضية الاستيطانية في فلسطين كأرض عربية والمسجد الأقصى كقضية عقائدية مرفوضة من حل ذي لب وعقيدة وهي محسومة حسما باتا لصالحهم وهذا ما يجعلهم ثابتين راسخين واثقين من رجوع الحق لأهله والأرض لأصحابها ورجوع السلام المجتمعي والتعايش السلمي بين الأمم إن شاء الله تعالى 🤲
دوام التوفيق والسداد
عرض كافي ووافي للموضوع
يسلم قلمك وفكرك
مقال رائع جدا سلمت يمناك