ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة

بقلم اشرف عبد الشافي :

في حضرة كتاب الموتى الفرعوني، الأرض لم تكن أرضًا، كانت طفلة مجنونة تتقلّب في البراكين والزلازل، وإن تشقلبت طوت تحتها ديناصورات وعمالقة من الجن. كانت نرجسية أيضًا، فعندما أراد الرحمن خلق آدم بعث إليها بملاك يطلب منها الطين، فلم تخشَ الملاك رغم طفولتها وجنونها، واستغاثت بالرحمن وقالت: “إشمعنى أنا؟!” فعاد الملاك إلى رب العرش العظيم يخبره بأمرها، فهدهدها الرحمن ووعدها بأن يعود إليها كل ما أُخذ منها.

ولم تصل رسالة الإله إلى أحد من البشر كما وصلت إلى أجدادك المصريين، الذين عرفوا السر مبكرًا:
الأرض بطبقاتها وكنوزها وأسرارها، والسماء بأقمارها وشموسها ونجومها، منهما الحياة وإليهما الحياة الأخرى. ولن تصل إلى نعيم الأرض وروح الله الساكنة فيها إلا أن رأيتها وأنت مؤمن بتلك القدرة. وليس هناك نعمة إلهية أوسع من النيل، فهو رجلها وكاشف أمرها وأسرارها.

النيل والأرض… والنور والظلام،
كانت المهمة صعبة، لكن النيل، الإله “حابى” العظيم، كان عونًا كبيرًا واستحق الألوهية والعبادة وتقديم القرابين من العرائس والبشر كي يفيض ويعرف قيمته في حياة كل هؤلاء العباد.

وصنع الجد العظيم حياةً وحضارةً، وزرع وحصادًا، وصلواتٍ وابتهالاتٍ لخالق الشمس وفالق الحب والنوى، كان يصنع كل ذلك وهو مشغول بالخلود في الأرض، فعرف الطريق إلى الروح التي تحمل الخير والشر والأحلام والأمنيات، وراح يحلم بالبعث.

وكتاب الموتى عرض مسرحي مذهل، متكامل الفصول، مليء بالبدايات والنهايات. عرض مستلهم من تأملات المصري في الوجود ودورة الحياة، فإن كانت الأرض تحمل أسرارها، فإن فيضان النيل يغمرها فيحييها، ثم ينحسر عنها فيميتها، ثم يبعث من جديد ليحييها ثانية. ويتحول النبات بعد موته إلى حياة، يُدفن في الأرض ثم تبعث فيه الحياة مع فيضان النيل ثانية، فيخرج النبات الحيّ من الحبة الميتة.

وحق قول الحق في محكم التنزيل: “ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة، فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت، إن الذي أحياها لمحيي الموتى، إنه على كل شيء قدير.”

وكما رأى المصري القديم دورة الأرض متأملًا خاشعًا، كذلك رأى الشمس في ميلادها، وراقبها وهي تدور حتى تغيب في مغربها. ومع النور يكون البعث الجديد، وحياتنا هي تلك الرحلة البسيطة التي تنتهي على الأرض بانتهاء الجسد، لتبدأ حياة الروح، وتبدأ طقوس كتاب الموتى من هذه اللحظة، بوضع الميت في بطن الأرض التي خرج منها، على طريقة وضع الجنين في بطن الأم عند خروجه للحياة الأولى، تعبيرًا عن ميلاده الثاني أو بعثه في العالم الآخر.

يرقد في سلام على جانبه الأيسر، حيث القلب أو القرين الذي سيلازمه في العالم الآخر، أما الوجه فمتجه ناحية غروب الشمس، في طريقها إلى العالم الآخر الذي سيتوجه إليه، تحمله مراكب الشمس أو سفينة الروح، مع وضع حاجياته الأولية من أدوات الزينة والمأكل والمشرب وبعض حاجياته المنزلية، مع بعض صفحات من كتب الموتى ونصوص التلقين والدعاء.

بعدها، سيجد سفينة تأخذ الروح بصحبة أوزوريس في رحلة عبر السماوات حتى قاعة الميزان والمحاكمة على الخطايا، لكنه لا بد أن يتلقى أول التعاليم حتى يصل إلى المحاكمة وجلالها وهيبتها:

“أيها الراحل، إنك لم تمت، بل دخلت بأمر الله إلى القبر، لتخرج من بابه الآخر، لتلقى أوزوريس في محكمة الآخرة – لن تحمل معك إلا أعمالك التي تضعها في الميزان، لنتلقى حكم الإله الأعظم، خالق الكون والكائنات، ليتحدد مكانك بإعادة مولدك في عالم الخلود. إن قلبك قرين حياتك، وهو الظل الذي يلازمك حتى تقف بين يدي الإله عندما تُسأل وتجيب على أسئلة القضاة، فهو القرين الذي لازمك في الحياة الأولى وشهد على أعمالك، فلا تحاول أن تكذب، فالخطيئة تضاعف إذا أنكرتها. فإذا أخطأت، قل: إني مذنب وقد أخطأت لأني بشر، فاغفر لي يا رب، والرب يغفر ذنوب المؤمن جميعها إذا اعترف بها وطلب العفو. ولا تنسَ أن ملكي الحسنات والسيئات يقفان إلى جوارك وأنت تدلي بالشهادة.”

لماذا يأخذ الميت الذهب والزهور؟
ليس صحيحًا أن جدك المصري القديم كان ساذجًا لدرجة أنه كان يأخذ حاجياته معه كي يستخدمها حين يستيقظ! هذا كلام فارغ، كما يؤكد المترجم د. فيليب عطية – الذي أريدك أن تحفظ اسمه لما قدم لنا من عمل عظيم.

فالروح هي التي تصعد وتهنأ بحياتها الأخرى بعد المحاكمة. وما وصلنا مما كان يوضع في المقابر من أدوات أو طعام أو من زخرفة المقابر وتزويدها بأدوات الزينة والمصاغ والذهب والأثاث والزهور، فهو ذكريات الميت في حياته الأولى، ويُقدم بعضها بصفة قرابين ونذور للآلهة. لذا فقد استُعيض عنها في كثير من مقابر الدولة الوسطى بزخرفة حوائط المقبرة بالرسوم والنقوش التي تعبر عن الحياة العامة والخاصة التي عاشها وعاصرها صاحب المقبرة، بالإضافة إلى ما قام به من أعمال في حياته لخدمة المجتمع، وما قام به من أعمال لآخرته، تمهيدًا لطريق النور إلى عالم الخلود.

والكنوز الغنية التي احتفظت بها مقابر المصريين القدماء – من تماثيل وتحف وأدوات تملأ غرف المقابر، والصور والنقوش التي تزين حوائطها – عبرت عن الحياة الاجتماعية العامة والخاصة في المكان والزمان، بجانب النقوش والنصوص الدينية التي تغطي أسقف غرف الدفن وأغطية التوابيت. وكانت المرجع الأساسي الذي استلهم منه المؤرخون والباحثون في تاريخ الحضارة المصرية، ما ساعدهم على كشف أسرار الحضارة وتسجيل تاريخها في مختلف نواحيها الاجتماعية والعلمية والسياسية والدينية.

وبعد، فقد حاولتُ اختصار هذا الكتاب الضخم بتفاصيله، وحذفتُ الكثير من أسماء الآلهة حتى لا ترتبك لديك الصورة، وكل ذلك كي أفتح أمامك نافذة يمكنك أن ترى منها أكثر، لو أحببت ذلك.

نقلا عن موقع فودكا

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى