هل آن الأوان لفصل الدين عن الدولة؟

بقلم القس الدكتور بطرس فلتاؤوس:

في عالم يتغير بسرعة، وتواجه فيه الدول تحديات اقتصادية واجتماعية متراكمة، يصبح من الضروري طرح الأسئلة الجوهرية التي تمس صميم البنية السياسية لأي دولة.
أحد هذه الأسئلة، وربما أكثرها حساسية وجدلاً، هو: هل يجب أن نفصل الدين عن الدولة؟
لا نقصد بهذا الفصل القطيعة أو العدائية، بل الحياد الدستوري والمؤسسي، بحيث لا تتدخل الدولة في العقائد، ولا تُبنى السياسات الاقتصادية والاجتماعية على أسس دينية.
هذا الفصل، رغم حساسيته، قد يكون مفتاحًا ضروريًا لبناء دولة حديثة، مستقرة، ومنفتحة اقتصاديًا.

كيف يخدم فصل الدين عن الدولة الاقتصاد؟

إن حياد الدولة دينيًا يخلق مناخًا من الاستقرار والوضوح في التوجهات، وهو ما يُترجم إلى فوائد اقتصادية ملموسة.
أولًا، هذا الحياد يعزز بيئة مستقرة وجاذبة للاستثمار، حيث يشعر المستثمر المحلي والأجنبي أن الدولة لا تميّز دينيًا، ولا تُخضع المشاريع الاقتصادية لمعايير غير اقتصادية.

ثانيًا، عندما يُفصل الدين عن منظومة التعليم والبحث العلمي، تُفتح أبواب الابتكار والإبداع، ويُبنى التعليم على قواعد عقلانية تراعي المستقبل لا الماضي فقط.
وهذا بدوره يسهم في دعم الاقتصاد القائم على المعرفة.

ثالثًا، القيود الدينية على بعض الأنشطة – كالسياحة أو بعض مجالات العمل – قد تحد من فرص النمو. أما عندما تُبنى السياسات على رؤية اقتصادية بحتة، تصبح الدولة أكثر قدرة على الانفتاح والتكيّف.

أيضًا، حين تتحرر الدولة من دعم المؤسسات الدينية أو الطائفية، يمكن توجيه الموارد نحو الصحة، التعليم، والبنية التحتية، مما يخلق عوائد اقتصادية مباشرة.

ولا نغفل أن النزاعات الطائفية والدينية كثيرًا ما تدمّر البنية الاقتصادية، وتستنزف الأمن والتنمية. الدولة العلمانية تقلل هذه الصراعات، وتوفر مناخًا أكثر أمانًا للإنتاج والاستثمار.

وأخيرًا، في دولة محايدة دينيًا، يتحقق تكافؤ الفرص في العمل والاقتصاد، فلا يُقصى أحد بسبب خلفيته الدينية، بل تُبنى الكفاءة على المهارة والعلم.

الإمارات: نموذج حياد عملي دون قطيعة مع الدين

الإمارات ليست دولة علمانية بالمعنى الأكاديمي الصارم، لكنها تقدم نموذجًا واقعيًا جديرًا بالتأمل.
ففي إمارات مثل دبي وأبوظبي، استطاعت الدولة أن تُطوّع السياسات الاقتصادية والاجتماعية لتكون أكثر انفتاحًا، دون التخلي عن هويتها الإسلامية.
وقد انعكس ذلك في تحقيق الإمارات واحدًا من أسرع الاقتصادات نموًا في المنطقة.

لقد وفّرت الإمارات بيئة استثمارية منفتحة تسمح بوجود شركات ومؤسسات من جميع أنحاء العالم، دون فرض قوانين دينية صارمة.
كما شرّعت قوانين مدنية مرنة للأجانب، تشمل قوانين الطلاق والإقامة والعمل، مما جعلها وجهة مفضلة للعيش والاستثمار.

أيضًا، السياسات الاقتصادية والسياحية لا تخضع لفتاوى دينية، بل تُبنى على أسس مدروسة تجاريًا وسياحيًا.
وفي ظل وجود أكثر من 200 جنسية من ديانات وثقافات مختلفة، تحرص الدولة على المساواة القانونية بينهم دون تمييز ديني.

هل الإمارات علمانية؟

الإجابة الدقيقة: لا.
لكن يمكن وصفها بأنها تطبّق علمانية براغماتية في المجالات التي تتطلب ذلك، خاصة في الاقتصاد والسياسة العامة.
تحافظ على هويتها الدينية، لكنها لا تُقيّد مسارات التنمية برؤية دينية شمولية.
وهذا التوازن مكّنها من تحقيق استقرار داخلي ونمو خارجي ملحوظ.

دول فصلت الدين عن الدولة… ونجحت اقتصاديًا

التجارب العالمية تثبت أن العلمانية ليست مجرد موقف فلسفي، بل خيار تنموي ناجح:
• تركيا بعد أتاتورك، نجحت في تحديث مؤسساتها، وبنت اقتصادًا صناعيًا قويًا، بفضل فصل المؤسسات الدينية عن الدولة.
• فرنسا، وهي من أقدم الدول العلمانية، كرّست حياد الدولة منذ عام 1905، ما وفّر حرية فكرية واستقرارًا ساعد في نهضتها العلمية والاقتصادية.
• الهند، رغم تنوعها الديني الهائل، اختارت العلمانية كضمانة للاستقرار، مما ساعدها في تكوين طبقة وسطى قوية، وجعلها من أسرع اقتصادات العالم نموًا.
• الولايات المتحدة، بفصلها الكامل بين الدولة والدين، خلقت بيئة متعددة ومتنوعة جذبت العقول والمستثمرين، وساهمت في إنتاج اقتصاد مبتكر وقوي.
• كوريا الجنوبية، بتبنيها علمانية مؤسساتية، ركزت على التعليم والتكنولوجيا، وأصبحت من أبرز النمور الآسيوية.

خاتمة

فصل الدين عن الدولة ليس حربًا على الدين، بل حماية له وللدولة معًا.
الدين مكانه الضمير، والمؤسسات الدينية، والمجتمع؛ أما الدولة فوظيفتها أن تدير شؤون الناس بعدل وكفاءة، بلا تحيّز ديني أو طائفي.
وإذا أردنا مستقبلًا أكثر استقرارًا وازدهارًا، فعلينا أن نُعيد النظر في طبيعة العلاقة بين الدين والدولة.
ربما آن الأوان لخطوة دستورية جريئة…
فصل الدين عن الدولة ليس خيارًا أيديولوجيًا فقط، بل ضرورة اقتصادية وإنسانية.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى