الرئيس السيسي في أثينا… عودة الروح للعلاقات المصرية اليونانية الضاربة في جذور التاريخ
في زيارة تعكس عمق الروابط التاريخية وتؤسس لمرحلة جديدة من التعاون الاستراتيجي، حلّ الرئيس عبد الفتاح السيسي ضيفًا على العاصمة اليونانية أثينا، حاملاً معه إرثاً من الصداقة المشتركة بين شعبين جمعتهما الجغرافيا ووحدتهما الحضارة، وها هما اليوم يتقاطعان من جديد على طريق المصالح المتبادلة ومواجهة التحديات الإقليمية والدولية.
زيارة تحمل رسائل القوة والتعاون
تأتي زيارة الرئيس السيسي لليونان في توقيت بالغ الأهمية، وسط متغيرات جيوسياسية متسارعة في شرق المتوسط، وملفات ملتهبة تتطلب تنسيقاً رفيع المستوى بين الحلفاء. وقد جاءت لقاءاته مع الرئيس اليوناني ورئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس بمثابة تجديد للتحالف القائم على الاحترام المتبادل والرؤية المشتركة لمستقبل المنطقة، لا سيما في قضايا الطاقة والأمن البحري ومكافحة الإرهاب والهجرة غير الشرعية.
الرئيس السيسي أكد أن العلاقات المصرية اليونانية نموذج فريد من نوعه في المنطقة، مشيرًا إلى التعاون الثلاثي بين مصر واليونان وقبرص، الذي أثمر عن مشاريع اقتصادية واستراتيجية حيوية، خاصة في مجالات الكهرباء والطاقة المتجددة ونقل الغاز الطبيعي إلى أوروبا.
الروابط الحضارية: من ضفاف النيل إلى بحر إيجه
ليست العلاقات المصرية اليونانية وليدة المصالح الحديثة، بل هي ضاربة في أعماق التاريخ منذ ما يزيد عن ألفي عام. فالإسكندرية التي أسسها الإسكندر الأكبر كانت ولا تزال شاهداً على التداخل الحضاري بين مصر واليونان، حيث شكلت تلك المدينة الساحلية بوتقة تلاقٍ فكري وثقافي استثنائي. عاش فيها الفلاسفة والعلماء، وترجمت فيها علوم الإغريق، وازدهرت بها المكتبة الأشهر في التاريخ القديم.
ومع دخول المسيحية، ظهر البُعد الديني أيضًا، إذ مثّلت الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية والمصرية ركيزة من ركائز التواصل الروحي والحضاري، وجاءت زيارات بطاركة الكنيسة اليونانية إلى الكاتدرائية المرقسية بالقاهرة، وتبادل الوفود الدينية، لتعكس هذه الروابط المستمرة عبر الزمن.
التحالف في شرق المتوسط: مواجهة التحديات الإقليمية
في السنوات الأخيرة، أثبتت مصر واليونان أنهما قادرتان على بلورة تحالف إقليمي مسؤول في مواجهة الأطماع الخارجية، خاصة في ما يتعلق بملف ترسيم الحدود البحرية والتنقيب عن الغاز في البحر المتوسط. وقد وقفت اليونان دائمًا داعمة لموقف مصر، سواء في ملف سد النهضة أو في التصدي للتدخلات الإقليمية في الشأن العربي.
كما أن القاهرة وأثينا تتقاسمان الرؤية ذاتها حيال أهمية الحفاظ على وحدة ليبيا، واحترام سيادة الدول، ورفض أي وجود عسكري أجنبي على أراضيها، وهو ما عبر عنه الرئيس السيسي بوضوح خلال لقائه بالقادة اليونانيين.
العلاقات الاقتصادية والثقافية: طريقان متوازيان نحو المستقبل
لم تقتصر العلاقات بين البلدين على البعد السياسي فحسب، بل تطورت بشكل ملحوظ على الصعيد الاقتصادي، حيث ارتفع حجم التبادل التجاري والاستثمارات المشتركة. وتعمل مصر على أن تكون بوابة اليونان إلى إفريقيا، فيما تمثل اليونان بوابة مصر إلى أوروبا.
وفي الجانب الثقافي، هناك عودة للاهتمام بالجالية اليونانية في مصر، وبالمقابر والمباني التاريخية اليونانية في الإسكندرية، حيث بادرت الدولة المصرية بترميمها وصيانتها، في مشهد يجسد الوفاء لهذا الإرث المتبادل. كما استقبلت الجامعات المصرية مئات الطلاب اليونانيين، وبدأت مشاريع ثقافية مشتركة تشمل الترجمة، والفن، والموسيقى.
ختاماً: حلفاء الحضارة وصنّاع المستقبل
إن زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي لليونان تمثل تتويجاً لمسيرة طويلة من الاحترام والشراكة، وتؤسس لمرحلة جديدة من التكامل بين بلدين يشتركان في القيم، والتاريخ، والرؤية. فمصر واليونان، بما لهما من عمق حضاري وموقع استراتيجي، لا يصنعان فقط تحالفًا دبلوماسيًا، بل يقدمان للعالم نموذجًا لما يمكن أن يكون عليه التعاون بين شعوب البحر المتوسط في مواجهة تحديات عالم مضطرب.
وها هو التاريخ يعيد نفسه، لا في شكل نزاع أو صراع، بل في صورة تحالف حضاري قوي يربط نهر النيل بزرقة إيجه، وتحت قيادة رشيدة تدرك أن الحاضر لا يُبنى إلا على جذور راسخة في التاريخ